0 / 0

يطالب بالنسخ الأصلية لصحيحي البخاري ومسلم

السؤال: 193912

هناك من الشيعة من يشككون في صحة صحيحي البخاري ومسلم .
حجتهم الأولى : أنه لا توجد النسخ الأصلية لهذين الكتابين بخطيهما رحمهما الله .
الثانية : أن بعض شراح البخاري شرحوا بعض الأحاديث التي ليست في البخاري .
أرجو أن يكون الجواب وافيا .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

من أهم ما ينبغي على المسلم المثقف ، أو المطالع لتراثه : أن يدرك أن إيراد الشبهات أمر سهل وميسور لكل أحد ، وعلى كل شيء ، حتى على المسلَّمات والبدهيات التي ينطلق الناس منها في أسس تفكيرهم العقلية ، حتى إن بعض المسترسلين مع الشبهات تاهوا في نهاية المطاف إلى إنكار وجودهم ، والشك في كل شيء حولهم ، الأمر الذي أدى بهم إلى المصحات النفسية لخروجهم عن السوية البشرية الطبيعية .
وهكذا نحن نتعامل مع كثير مما يسمى بـ” الشبهات “، وهي في حقيقتها أوهام يتحدث بها بعض من ابتلينا بهم في هذا الزمان ، الأمر الذي يضطرنا دائما إلى النزول لتأسيس مبادئ التفكير السليمة في شتى العلوم والثقافات .
وما ورد في السؤال هنا أحد الأمثلة على ذلك ، فإذا أراد السائل بقوله النسخ الخطية ( الأصلية ) أي التي كتبها المصنف بيده ، ففي أي عقل أو منطق يمكن أن يقال : إنه لا بد من توافر هذه النسخ ، كي نعترف بصحة نسبة كتاب معين إلى مؤلفه ! وكم في العالم من كتاب ، منذ أن عرف الناس الكتابة : يتحقق فيه ذلك التنطع ؟!
ولكي تعلم الشطط الذي ينحو إليه هذا القائل فما عليك سوى أن تتصور أحدهم يدخل مكتبة مرموقة ، أو دارا للنشر معروفة من المكتبات العالمية اليوم ، ويقول لقيِّم المكتبة : إنني لا أعترف بنسبة أي كتاب لديك في هذه الخزائن الضخمة إلا أن تأتيني بنسخة أصلية كتبها المؤلف بخط يده ، كي يطمئن قلبي إلى صحة نسبة هذه الكتب لمؤلفيها ! متجاوزا بذلك كل الأعراف و” المسالك ” العلمية التي تضمن في عصرنا الراهن سلامة الكتب وعدم انتحالها ، كالتسجيل في المكتبات الوطنية ، والحصول على إذن الفسح ، والشهرة بين النقاد ، وتواتر الأخبار ، ونحو ذلك من وسائل العلم والإثبات في هذا المجال .
نحن ندرك يقينا أن بعض المختصين في طرح الشبهات يعلم في داخلة نفسه مقدار السخف والسذاجة لما يطرحه ويقوله ، ولكنه في الوقت نفسه يصر على طرحه لعلمه أن مجرد إيراد كلمة ” الشبهة ” على أي شيء في هذا الوجود ، لا بد وأن يجد محلا في قلوب بعض الناس وعقولهم ، ويكفيه حينئذ ما يحققه من نتائج ولو كانت يسيرة ، المهم أن يخلط الأوراق ، ويشوش على أساليب التفكير السليم .
وإلا فكتاب ” صحيح البخاري ” سمعه تسعون ألف رجل ” من الإمام البخاري نفسه رحمه الله ، كما أخبر بذلك أحد أشهر تلاميذه ، وهو محمد بن يوسف الفربري (المتوفى سنة 320هـ). ينظر ” تاريخ بغداد ” (2/9) ، ” تاريخ الإسلام ” (7/375) ، وقد اشتهرت رواية الفربري لصحيح البخاري لطول عمره ، وإتقان نسخته ، فقد سمعها من البخاري رحمه الله في ثلاث سنين ، ثم أخذها عنه جماعة من الرواة الثقات ، وعنهم اشتهر أيضا هذا الكتاب .
يقول المستملي (ت376هـ) – أحد الرواة عن محمد بن يوسف الفربري – : ” انتسخت كتاب البخاري من أصله كما عند ابن يوسف ، فرأيته لم يتم بعد ، وقد بقيت عليه مواضع مبيضة كثيرة ، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئا ، ومنها أحاديث لم يترجم عليها ، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض ” انتهى. رواه الباجي في ” التعديل والتجريح ” (1/310) .
وقد روى الصحيحَ عن الفربري جماعةٌ من الرواة الثقات ، من أشهرهم :
المستملي (ت376هـ) واسمه : إبراهيم بن أحمد .
الحموي خطيب سرخس (ت381هـ)، واسمه عبد الله بن أحمد .
أبو الهيثم الكشميهني (ت389هـ)، واسمه محمد بن مكي .
أبو علي الشبوي ، واسمه محمد بن عمر .
ابن السكن البزاز (ت353هـ)، واسمه سعيد بن عثمان .
أبو زيد المروزي (ت371هـ)، واسمه محمد بن أحمد .
أبو أحمد الجرجاني (ت373هـ)، واسمه محمد بن محمد .
ومن تلاميذ البخاري الثقات الذين سمعوا صحيحه منه مباشرة ، ونقلوه للناس مسندا مدونا الإمام الحافظ الفقيه ، القاضي ، أبو إسحاق ، إبراهيم بن مَعْقِل بن الحجاج ، النسفي، (ت295هـ). وقد روى نسخة النسفي الإمام الخطابي رحمه الله ، كما قال في شرحه ” أعلام الحديث ” (1/105): ” سمعنا معظم هذا الكتاب من رواية إبراهيم بن معقل النسفي ، حدثناه خَلفُ بن محمد الخيام ، قال : حدثنا إبراهيم بن معقل ، عنه ”
وهذه هي الطريقة الأشهر والأمثل لدى المحدثين ، أنهم يقرؤون مصنفاتهم على تلاميذهم ، أو يقرأ عليهم تلاميذهم مصنفاتهم ، ثم تنتشر تلك المصنفات عبر التلاميذ والرواة ، وليس عبر أصل كتاب المؤلف الذي هو نسخة واحدة يحتفظ بها لنفسه ، مع عدم وجود المطابع ودور النشر في تلك الأيام ، فقد كانت المطابع هي رواية التلاميذ مسندة موثقة .
فماذا يريد الباحث ثقة أكثر من نقل الرواة الثقات ، عن نسخ خطية قرئت على المصنف وأقرها ، كما قالوا في ” نسخة الصَّغانّي : أنه نقلها من النسخة التي قُرئت على المصنف رحمه الله تعالى ” ينظر “فيض الباري” للكشميري.
وإذا سألت عن قدم النسخ الخطية الموجودة اليوم فقد نشر المستشرق ” منجانا ” في كمبردج عام 1936م ، أقدم نسخة خطية وقف عليها حتى الآن ، وقد كتبت عام 370هـ ، برواية المروزي عن الفربري . ينظر ” تاريخ التراث ” فؤاد سزكين ” (1/228) .
ومن أشهر مخطوطات الكتاب التي وصلتنا في عصرنا الحديث نسخة الحافظ أبي علي الصدفي (ت 514هـ) التي كتبها من نسخة بخط محمد بن علي بن محمود ، مقروءة على أبي ذر رحمه الله ، وعليها خطه . وقد كانت عند العلامة الطاهر بن عاشور استعارها من مكتبة طبرق في ليبيا .
وكذلك نسخة الإمام الحافظ شرف الدين أبي الحسين عليّ بن أحمد اليونيني المعروف بالبعليّ ، الحنبلي (ت701هـ)، وقد قابلها بأصل مسموع على الحافظ أبي ذرِّ الهروي ، وبأصل مسموع على الأصيلي ، وبأصل الحافظ ابن عساكر ، وبأصل مسموع عن أبي الوقت ، وذلك بحضرة الإمام اللغوي النحوي ابن مالك صاحب الألفية (ت672هـ) .
وهكذا لو رحنا نعدد نسخ الصحيح المنتشرة في مكتبات المخطوطات في العالم ، وقربها من عصر تأليف الصحيح ، وكثرة رواتها وثقتهم ومقابلتهم نسخهم على النسخ الكبيرة المعتمدة لطال المقام جدا ، ويكفيك أن تذهب إلى إحدى المكتبات التي تشتمل على المخطوطات ، وتسأل عن صحيح البخاري لتقف على المئات منها ، بأسانيدها الصحيحة إلى الإمام البخاري نفسه . وقد أحال ” الفهرس الشامل ” على (2327) موضعاً في مكتبات العالم المختلفة توجد به مخطوطات هذا الكتاب . انظر: ” الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط، الحديث النبوي وعلومه ” (1/493 – 565).
أما صحيح الإمام مسلم ، فلا يقل اشتهارا وانتشارا عن صحيح الإمام البخاري ، كما قال بروكلمان : ” صحيح مسلم يكاد يضاهي صحيح البخاري في كثرة مخطوطاته ووجودها في أكثر المكتبات “. كما في ” تاريخ الأدب العربي ” (3/180) .
وله من الأسانيد التي تثبت نسبة الكتاب إلى مصنفه ما لا يكاد ينحصر ، حتى إن جماعة من العلماء أفردوا أسانيد ” صحيح مسلم ” بمصنفات خاصة ، بلغ عددها نحوا من ثمانية مصنفات ، من آخرها كتاب الكتاني (ت1327هـ) المسمى بـ ” جزء أسانيد صحيح مسلم “.
يقول الشيخ مشهور حسن سلمان :
” أخذ هذا الكتاب عن مسلم جماعة ، من أشهرهم إبراهيم بن محمد بن سفيان ، وقد سمعه من صاحبه خلا ثلاثة مواطن ، فقد قابلها بنسخة شيخه مسلم ، وكانت نسخة مسلم هذه نفيسة عزيزة عليه ، حملها معه إلى الري ، ووضعها بين يدي أبي زرعة الرازي ، واطلع عليها ابن وارة ، وأخذها عن سفيان جماعة ، بالسماع أحيانا ، والإجازة مرة ثانية ، من بينهم الجلودي ، وقد كانت نسخته يتداولها الطلبة فيما بينهم , وينسخ عنها بعضهم … وكانت كثير من هذه النسخ صحيحة غاية ، وعليها سماعات ومقابلات ، ولذا احتج بها العلماء عند المباحثة والمناقشة ، وكانوا يرجعون إليها في المعضلات والمشكلات . وتوجد في مكتبات العالم من هذا ” الصحيح ” نسخ خطية عديدة جدا ، فتكاد أن لا تخلو منه مكتبة أو دار للكتب ، وهذه النسخ تتفاوت في تاريخ نسخها ، وفي نفاستها وجودتها .
وفي مكتبة القرويين بفاس إلى الآن نسخة منه نفيسة جدا ، هي نسخة ابن خير الإشبيلي ، التي قابلها مرارا ، وسمع فيها وأسمع ، بحيث يعد أعظم أصل موجود من ” صحيح مسلم ” في إفريقية ، وعليه بخط ابن خير أنه عارضه بأصول ثلاثة معارضة بنسخة الحافظ أبي علي الجياني ” انتهى باختصار من ” الإمام مسلم بن الحجاج ومنهجه في الصحيح ” (1/375-376) .
أما دعوى أن ” بعض شراح البخاري شرحوا بعض الأحاديث التي ليست في البخاري ” فلم نقف لها على مثال واحد ، فالاختلاف بين روايات ” صحيح البخاري ” إنما وقع في أمثلة يسيرة من الأسانيد ، أو بعض ألفاظ المتون ، أو أبواب الكتاب وتراجمه ، أما أن يكون ثمة أحاديث أصول مستقلة في أبواب معينة من أبواب العلم وردت في بعض الروايات ، ولم ترد في روايات أخرى ، فهذا ما لم نجد له مثالا .
وعلى فرض وجوده : فليس بالأمر المستنكر ولا المستغرب ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه اختلف الرواة عليه ، فبعض الصحابة يروي الحديث بلفظ معين ، وآخرون يروونه بلفظ آخر ، وبعض الصحابة يروي الحديث ولا يستذكره آخرون ، في عشرات الأمثلة ، وليس ذلك بقادح في أصل السنة النبوية ، ولا في وثاقة الصحابة الرواة عن النبي صلى الله عليه وسلم . فمن باب أولى أن يكون الاختلاف اليسير بين رواة ” الجامع الصحيح ” ليس بقادح في أصل ثبوت الكتاب ، ولا في وثاقته ، ولا في أحاديثه ورواياته .
ونحن لا نشك في أن انعدام الخبرة في التعامل مع التراث ، بل انعدام العلم بطبيعة علم التاريخ والمخطوطات : هو السبب في مثل هذه الإيرادات ، أو غلبة الجهل المطبق ، وعمى القلب ، على صاحبه .
وإلا فمن مارس شيئا يسيرا من هذه العلوم أيقن أن تفاوت الروايات والمخطوطات لكتب التراث القديمة أمر طبيعي في ظل اعتماد الناس قديما على النسخ باليد ، وفي ظل ضعف وسائل الإعلام ، وعدم التزام النساخ في بعض المواضع بما في الأصل ، بل وعدم وقوفهم على التعديلات التي يجريها المؤلف نفسه على كتابه ، فيقع الاختلاف بين النسخ ، كما وقع في ” سنن الترمذي ” ، و ” سنن أبي داود ” ، و” الموطأ ” للإمام مالك ، و ” مسند الإمام أحمد بن حنبل “. بل وكما وقع في ” الشعر الجاهلي ” من قبل ، وفي كتب أفلاطون وأرسطو وتراث فلاسفة اليونان كله ، وفي كل من التوراة والإنجيل .
ونحن نرجو بمثل هذه الإضاءات اليسيرة أن يتيقظ القراء لحقيقة التلبيسات التي تتم ، وأن إعمالا يسيرا للعقل ، مع قليل من الخبرة : حقيق أن يدفع عن المرء جميع هذه الشبهات .
ينظر كتاب ” روايات ونسخ الجامع الصحيح للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري دراسة وتحليل” لفضيلة الدكتور محمد بن عبد الكريم بن عبيد ، ومنه استفدنا كثيرا مما سبق.
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android