0 / 0

ما هو التنطع المذموم ؟

السؤال: 103889

ما معنى التنطع في الإسلام ؟ وهل تغطية الوجه وإعفاء اللحى والالتزام بجميع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ورفض كل ما هو مستحدث فى الدين يعد تشددا ؟ وما معنى أنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
الحديث الذي ورد في ذم التنطع جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ . قَالَهَا ثَلَاثًا ) رواه مسلم (2670)
وللعلماء في تفسير " التنطع " و " المتنطعين " عبارات كثيرة ، تتوافق ولا تتعارض ، وكلها تجتمع في معنى واحد ، يرجع إلى التكلف والتشدد فيما لا ينبغي وفي غير موضعه الصحيح. ومن هذه المعاني :
1- الغلو في العبادة والمعاملة ، بحيث يؤدي إلى المشقة الزائدة ، والشريعة لم تأمر إلا بما فيه يسر وسماحة ، ونهت عن التشدد في الدين ، وصور الغلو التي أحدثها الناس في الدين وعدها العلماء من التنطع لا تكاد تحصى بعدد .
يقول النووي في "شرح مسلم" (16/220) :
" أي : المتعمقون ، الغالون ، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم " انتهى .
2- الابتداع في الدين ، بتحريم ما لم يحرمه الله ورسوله ، واستحداث صور من العبادات والإلزامات لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – كما في "مجموع الفتاوى" (10/620) – :
" الرهبانيات والعبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات ، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( هلك المتنطعون ) ، وقال : ( لو مد لي الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم ) مثل الجوع أو العطش المفرط الذي يضر العقل والجسم ، ويمنع أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه ، وكذلك الاحتفاء والعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة ، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم ، وأن يقوم قائما ولا يجلس ، ولا يستظل ، ولا يتكلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروه فليجلس ، وليستظل ، وليتكلم ، وليتم صومه ) رواه البخاري . وهذا باب واسع " انتهى .
3- التقعر في الكلام ، والتشدق باللسان ، بتكلف الكلمات التي تميل قلوب الناس إليه ، حيث لا معنى ولا مضمون ، ولا فائدة ترجى من تشدقه وتقعره .
فقد أورد ابن أبي الدنيا هذا الحديث في رسالة " الغيبة والنميمة " في باب " ما جاء في ذم التقعر في الكلام " (ص/15) وروى فيه عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ )
رواه أيضا أحمد في "المسند" (1/22) وحسنه محققو المسند .
وروى فيه أيضا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( إن شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان )
قال ابن الأثير في "النهاية" (5/164) :
" المُتَنَطِّعون : هم المُتعَمِّقون المُغالون في الكلام ، المتكلِّمون بأقْصَى حُلوقهم . مأخوذ من النِّطَع ، وهو الغارُ الأعْلى من الفَم ، ثم استُعْمِل في كل تَعَمُّق قولاً وفعلا " انتهى .
4- الخوض فيما لا يعني ، والسؤال عما لا ينبغي ، وتكلف البحث فيما لا يغني .
قال الخطابي :
" المتنطع : المتعمق في الشيء ، المتكلف للبحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم ، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم " انتهى . نقلا عن " عون المعبود " (12/235)
ويقول ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص/285) :
" المتنطع : هو المتعمق ، البحاث عما لا يعنيه ؛ فإن كثرة البحث والسؤال عن حكم ما لم يذكر في الواجبات ولا في المحرمات ، قد يوجب اعتقاد تحريمه ، أو إيجابه لمشابهته لبعض الواجبات أو المحرمات ، فقبول العافية فيه ، وترك البحث عنه والسؤال خير " انتهى بتصرف. ثم ذكر ابن رجب رحمه الله أمثلة لما ينبغي تجنب البحث فيه من تفاصيل أمور الغيب المجهولة والفروق الفقهية المتكلفة ، والتفريع على المسائل التي يندر وقوعها، ونحوها.
قال الشيخ ابن عثيمين في "شرح رياض الصالحين" (1/416-418) :
" كذلك أيضاً من التشديد في العبادة ، أن يشدد الإنسان على نفسه في الصلاة أو في الصوم أو في غير ذلك مما يسره الله عليه ، فإنه إذا شدد على نفسه فيما يسره الله فهو هالك .
ومن ذلك ما يفعله بعض المرضى – ولا سيما في رمضان – حين يكون الله قد أباح له الفطر وهو مريض ، ويحتاج إلي الأكل والشرب ، ولكنه يشدد على نفسه فيبقى صائماً ، فهذا أيضاً نقول إنه ينطبق عليه الحديث : هلك المتنطعون .
ومن ذلك ما يفعله بعض الطلبة المجتهدين في باب التوحيد ؛ حيث تجدهم إذا مرت بهم الآيات والأحاديث في صفات الرب عز وجل جعلوا ينقبون عنها ، ويسألون أسئلة ما كلفوا بها ، ولا درج عليها سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى من بعدهم ، فتجد الواحد ينقب عن أشياء ليست من الأمور التي كلف بها تنطعاً وتشدقاً ، فنحن نقول لهؤلاء : إن كان يسعكم ما وسع الصحابة رضي الله عنهم فأمسكوا ، وإن لم يسعكم فلا وسع الله عليكم ، وثقوا بأنكم ستقعون في شدة وفي حرج وفي قلق …
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض الطلبة من إدخال الاحتمالات العقلية في الدلائل اللفظية ؛ فتجده يقول : يحتمل كذا ويحتمل كذا ، حتى تضيع فائدة النص ، وحتى يبقى النص كله مرجوجاً لا يستفاد منه . هذا غلط . خذ بظاهر النصوص ودع عنك هذه الاحتمالات العقلية ، فإننا لو سلطنا الاحتمالات العقلية على الأدلة اللفظية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما بقى لنا حديث واحد أو آية واحدة يستدل بها الإنسان ، ولأورد عليها كل شيء ، وقد تكون هذه الأمور العقلية وهميات وخيالات من الشيطان ، يلقيها في قلب الإنسان حتى يزعزع عقيدته وإيمانه والعياذ بالله .
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض المتشددين في الوضوء ، حيث تجده مثلاً يتوضأ ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر ، وهو في عافية من ذلك . أيضاً في الاغتسال من الجنابة ، تجده يتعب تعباً عظيماً عند الاغتسال ، في إدخال الماء في أذنيه ، وفي إدخال الماء في منخريه .
وكل هذا داخل في قول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( هلك المتنطعون . هلك المتنطعون . هلك المتنطعون )
فكل من شدد على نفسه في أمر قد وسع الله له فيه فإنه يدخل في هذا الحديث " انتهى باختصار .
ثانيا :
أما الالتزام بشعائر الدين الظاهرة ، والمحافظة على حدود الله ، وامتثال أوامره ، فهذا من واجبات الدين ، وسبيل دخول جنة رب العالمين ، ولا يعدها مِن التنطع إلا مَن يريد التحلل من الشريعة ، والطعن في الأحكام الثابتة ؛ فإن التنطع المذموم هو خروج عن قانون الشريعة وآدابها ، فكيف يكون التزامها ، والتمسك بها ، والعض عليها بالنواجذ تنطعا ؟!!
والحَكَمُ الفصل في ذلك هو الأدلة من الكتاب والسنة ، فما جاءت به الأدلة الصحيحة الظاهرة بإيجاب شيء – كغطاء الوجه وإعفاء اللحية – ، أو تحريم شيء – كتحريم المعازف والاختلاط بالنساء ونحوه – فهذا لا يجوز وصفه بالتنطع والتشدد ، إذ يلزم منه اتهام النبي صلى الله عليه وسلم – الذي أمرنا بها – بأنه متنطع !! وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك.
أما ما لم تأت به النصوص ، وكان من أحد الأوجه الأربعة السابقة في تفسير التنطع ، فهذا هو ما ينبغي ذمه واجتنابه ، ولا يخلط بينه وبين أحكام الشريعة الظاهرة الثابتة .
ثالثا :
أما حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : ( مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنْ الْآخَرِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا ، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ ) رواه البخاري (3367) ومسلم (2327)
فلا يعني بوجه من الوجوه التخلي عن الشريعة ، والتقصير في الواجبات ، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على تحقيق العبودية لله بجميع لوازمها ، ولكن المراد بقوله ( بين أمرين ) أي من أمور الدنيا التي ليس للشرع فيها أمر أو نهي ، أو من الأمور التي يسع فيها الاختيار من السنن والمستحبات ، أما إذا جاء التكليف بالوجوب أو التحريم فيجب الوقوف عنده من غير تعد ولا تقصير .
يقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/575) :
" قوله : ( بين أمرين ) أي : من أمور الدنيا ، يدل عليه قوله : ( ما لم يكن إثما ) ؛ لأن أمور الدين لا إثم فيها ، وقوله : ( ما لم يكن إثما ) أي : ما لم يكن الأسهل مقتضيا للإثم ، فإنه حينئذ يختار الأشد . وفي حديث أنس عند الطبراني في الأوسط : ( إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط ) " انتهى .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android