هل يرجع أحد من القنطرة بعد عبور الصراط إلى النار بسبب مظالم العباد ؟
هل يمكن لأحد الرجوع من القنطرة إلى النار بسبب مظالم العباد ؟
السؤال: 292592
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
يوم القيامة هو يوم الجزاء ، لا ظلم فيه ، حيث يحاسب الله العباد ، فيؤدي كل عبد ما عليه للناس من حقوق ، وذلك بالحسنات والسيئات .
فقد أخرج مسلم في “صحيحه” (2581) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : ” أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ ، وَصِيَامٍ ، وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ .
ومعلوم أن الحساب يكون قبل المرور على الصراط .
قال شيخ الإسلام كما في “المستدرك على الفتاوى” (1/103) :” وحشرهم وحسابهم يكون قبل الصراط ؛ فإن الصراط عليه ينجون إلى الجنة ، ويسقط أهل النار فيها كما ثبت في الأحاديث “. انتهى.
ثم يؤمر الناس بالمرور على الصراط ، فناج سليم ، وناج مخدوش ، ومكدوس في نار جهنم .
وفي حديث أبي سعيد الخدري المشهور في رؤية الله تعالى ، والذي أخرجه البخاري في “صحيحه” (7439) ، ومسلم في “صحيحه” (183) ، قال صلى الله عليه وسلم : ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ “، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الجَسْرُ؟ قَالَ: مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلاَلِيبُ ، وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ ، تَكُونُ بِنَجْدٍ ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ ، المُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ ، وَكَأَجَاوِيدِ الخَيْلِ وَالرِّكَابِ ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا .
فإذا مرّ العبد من على الصراط فقد نجا من نار جهنم ، وفاز فوزا عظيما .
قال الله تعالى : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ آل عمران/185.
وأخرج مسلم في “صحيحه” (187) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ ، فَهْوَ يَمْشِي مَرَّةً ، وَيَكْبُو مَرَّةً ، وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً ، فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا ، فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ ، لَقَدْ أَعْطَانِي اللهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ .
إلا أنه بعد أن يخلص المؤمنون من النار ، ويعبرون الصراط ، يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار ، يتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا نُقوا ، وهُذِّبوا ، وذهب ما في صدورهم : أذن لهم الرحمن بدخول الجنة .
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بإثبات هذه القنطرة .
ومن ذلك ما أخرجه البخاري في “صحيحه” (2440) ، من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ ، حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا ، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا ، أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الجَنَّةِ ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الجَنَّةِ: أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا .
ثانيا:
وأما عن إمكانية أن يعود من المؤمنين أحد إلى النار بعد مروره من على الصراط ، بسبب مظالم العباد ؛ فيقال في جوابه :
إن هذا لا يكون ، بحمد الله ونعمته ؛ فإن من نجاه الله من النار ، وعبر الصراط ، لا يعود إلى النار بعد إذ نجاه الله منها ، ولا يعود إلى الصراط ، ليعبره مرة أخرى .
وهذه القنطرة إنما هي لأهل الإيمان ممن لا تستغرق مظالمهم جميع حسناتهم ، وقد نصّ على ذلك ابن بطال ، والقرطبي ، وابن القيم رحمهم الله تعالى .
قال ابن بطال في “شرح صحيح البخاري” (6/568) :” وهذه المقاصة التي في هذا الحديث: هي لقوم ، دون قوم ؛ وهم من لا تستغرق مظالمهم جميع حسناتهم ؛ لأنه لو استغرقت جميعها ، لكانوا ممن وجب لهم العذاب ، ولما جاز أن يقال فيهم: خلصوا من النار .
فمعنى الحديث – والله أعلم – : على الخصوص ، لمن يكون عليه تبعات يسيرة .
فالمقاصة أصلها في كلام العرب : مقاصصة ، وهى مفاعلة ، ولا تكون المفاعلة أبدًا إلا من اثنين ، كالمقاتلة والمشاتمة ، فكأن كل واحد منهم له على أخيه مظلمة ، وعليه له مظلمة ، ولم يكن في شيء منها ما يستحق عليه النار، فيتقاصون بالحسنات والسيئات ، فمن كانت مظلمته أكثر من مظلمة أخيه : أُخذ من حسناته ، فيدخلون الجنة ، ويقتطعون فيها المنازل على قدر ما بقى لكل واحد منهم من الحسنات ، فلهذا يتقاصون بالحسنات ، بعد خلاصهم من النار – والله أعلم – لأن أحدًا لا يدخل الجنة ولأحد عليه تبعة ” انتهى.
وقال القرطبي في “التذكرة” (ص392) :” اعلم رحمك الله أن في الآخرة صراطين : أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم ، ثقيلهم وخفيفهم ، إلا من دخل الجنة بغير حساب ، أو من يلتقطه عنق النار ، فإذا خلص من هذا الصراط الأكبر الذي ذكرناه ، ولا يخلص منه إلا المؤمنون الذين علم الله منهم أن القصاص لا يستنفد حسناتهم ، حُبسوا على صراط آخر خاص بهم ، ولا يرجع إلى النار من هؤلاء أحد ، إن شاء الله ؛ لأنهم قد عبروا ا الصراط الأول المضروب على متن جهنم ، الذي يسقط فيها من أوبقه ذنبه ، وأربى على الحسنات بالقصاص جرمه ” انتهى.
وقال ابن القيم في “إغاثة اللفهان” (1/56) :” حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط ، حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيُهَذَّبون ويُنقَّون من بقايا بقيت عليهم ، قصّرت بهم عن الجنة ، ولم توجب لهم دخول النار ، حتى إذا هُذِّبوا ونُقوا ، أُذن لهم في دخول الجنة “انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في “شرح العقيدة الواسطية” (2/163) :” * قوله:” فيقتص لبعضهم من بعض “:
وهذا القصاص غير القصاص الأول، الذي في عرصات القيامة ، لأن هذا قصاص أخص ؛ لأجل أن يذهب الغل والحقد والبغضاء التي في قلوب الناس ، فيكون هذا بمنزلة التنقية والتطهير ، وذلك لأن ما في القلوب لا يزول بمجرد القصاص .
فهذه القنطرة التي بين الجنة والنار ؛ لأجل تنقية ما في القلوب ، حتى يدخلوا الجنة وليس في قلوبهم غل ؛ كما قال الله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر: 47]” انتهى.
ثالثا :
تحدث بعض أهل العلم عن معنى المقاصة التي تكون بين أهل الإيمان عند قنطرة القصاص ، فمن أهل العلم من يرى أنه يقتص بعضهم من بعض ، ومنهم من يرى أنه يكون بالحسنات والسيئات ، إلا أن هؤلاء لا تستنفد مظالمهم حسناتهم ، ولذا يقع بينهم لأجل ذلك التفاضل في درجات الجنة ، ومنهم من يرى أن الله يلقي في قلوبهم العفو .
قال البيهقي في “شعب الإيمان” (1/523) :” وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ بِهِ : حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا بِأَنْ يَرْضَى عَنْهُمْ خُصَمَاؤُهُمْ ، وَرِضَاهُمْ قَدْ يَكُونُ بِالِاقْتِصَاصِ كَمَا مَضَى فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَقَدْ يَكُونُ بِأَنْ يُثِيبَ اللهُ الْمَظْلُومَ خَيْرًا مِنْ مَظْلَمَتِهِ ، وَيَعْفُوَ عَنِ الظَّالِمِ بِرَحْمَتِهِ “انتهى.
وقال ابن الملقن في “التوضيح لشرح الجامع الصحيح” (15/571) :” وقوله: ( يتقاصون ) أي: يتتاركون ؛ لأنه ليس موضعَ مقاصة ولا حساب ؛ لكن يلقي الرب جل جلاله في قلوبهم العفو لبعضهم عن بعض ، فيتتاركون ، أو يعوض الله بعضهم من بعض “. انتهى.
وعلى كلٍ ؛ فالله أعلم بكيفية القصاص في هذا الموضع ، إلا أنه لا يعود أحد منهم – إن شاء الله – إلى النار ، بعد إذ نجاه الله منها .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب