إني والله لا أبرئ نفسي ، وأعلم أن النفس أمارة بالسوء ، وسؤالي ليس من باب الشكوى ، ولكن من باب طلب الاستشارة ، فالمرء منا لا يخلو من النقائص لولا ستر الله ، ومشكلتي تكمن في الآتي ، حيث أعمل بمؤسسة ذات طابع علمي ، لدي وـ لله الحمد ـ علاقات طيبة مع الجميع ، وأحاول دوما تجنب المشاكل وتلبية طلبات الزميلات بما أمكنني فعله على حساب وقتي في الكثير من الأحيان ، حاولت الابتعاد باللجوء إلى أماكن غير مكتبي ، ولكنني تعبت من الهروب ، ولا أخفيكم بأنني أحيانا أفضل عدم سماع أخبار أي إنسان سواء الطيبة منها أو غيرها ، تربطني علاقة صداقة مع زميلاتي في المكتب ، وهن لا يكتمن أمرا عني طيبه أو سيئه ، فأحيانا يمضي اليوم دون أن أقوم بشيء يخص عملي ، فتعبت صراحة من هذا ، وفكرت مؤخرا بتغيير مكتبي ، وتحديد العلاقات في العمل ما أمكنني ذلك ، لكنني أراجع نفسي وأقول ربما أكون آثمة في ذلك من باب أن يخالط المرء أخاه ويصبر على أذاه خير من أن يعتزله ، فما رأيكم ، هل أصبر أم أغير وأحدد علاقاتي في العمل؟ وشرعا ما هي حدود العلاقات في العمل؟
هل تخالط زميلاتها في العمل أم تعتزلهم ؟
السؤال: 249349
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
لا شك أن الخلطة في العمل ، وعدم ضبط العلاقات بين الموظفين ، تشتمل على كثير من المفاسد ، كضياع الأوقات ، وكثرة القيل والقال ، وربما جر ذلك إلى الغيبة والنميمة ، أو حكاية ما لا يجوز حكايته من الأمور الخاصة .
وهذا ليس دعوة للعزلة ، والإعراض عن الناس ، ولكن دعوة للاقتصاد والتوسط ، بأن يراعي الإنسان حق إخوانه وزملائه ، وأن يراعي حق نفسه، فلا يظلمها بارتكاب المعصية ، أو تضييع العمر فيما لا ينفع ، والتقصير في العمل الذي أوكل إليه والأمانة التي اؤتمن عليها ، وعليه فيقتصر في علاقته على السلام ، وبذل المودة ، والنصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقليل من الكلام المباح ، ثم يقبل على عمله وشأنه ، فإن كان له وقت فراغ، اشتغل بحفظ القرآن الكريم، وذكر الله تعالى، وقراءة الكتب النافعة، دون أن يشيح بوجهه عن إخوانه، أو ينفرهم من الاستقامة بسلوكه، بل يتبسّم في وجوههم، ويتلطف في الاعتذار عن مشاركتهم، ويبين لهم فضل الاشتغال بالطاعة، ويجد لهم من الوسائل ما يدخلهم بها في سلكه وطريقته، كإسماعهم بعض المقاطع النافعة، وإشراكهم في بعض البرامج العلمية والدعوية في وسائل التواصل الاجتماعي ، وغيرها.
وفي هذا جمع بين العزلة والخلطة، فيكون مخالطا من وجه، معتزلا من وجه. وعليه أن يصبر على ما يصيبه من أذى الكلام وغيره ، وعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ) .
رواه أحمد (5022) ، وابن ماجه ( 4032) ، والترمذي ( 5207 ) ، وصححه الألباني في ” صحيح ابن ماجه “.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الل ه: وأما قوله: ” هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة ؟ ” ؛ فهذه المسألة وإن كان الناس يتنازعون فيها إمَّا نزاعاً كليّاً ، وإمَّا حاليّاً ، فحقيقة الأمر : أن الخلطة تارة تكون واجبة ، أو مستحبة ، والشخص الواحد قد يكون مأموراً بالمخالطة تارة ، وبالانفراد تارة ، وجماع ذلك : أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى : فهي مأمور بها ، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان : فهي منهي عنها ، فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحو ذلك : هو مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الاختلاط بهم في الحج ، وفي غزو الكفار ، والخوارج المارقين ، وإن كان أئمَّة ذلك فجاراً ، وإن كان في تلك الجماعات فجَّارٌ.
وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به إيمانا : إما لانتفاعه به ، وإما لنفعه له ، ونحو ذلك .
ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه ، وذكره ، وصلاته ، وتفكره ، ومحاسبة نفسه ، وإصلاح قلبه ، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره ؛ فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه ، إما في بيته – كما قال طاووس : ” نِعْم صومعة الرجل بيته ، يكف فيها بصره ولسانه ” – وإما في غير بيته.
فاختيار المخالطة مطلقا : خطأ ، واختيار الانفراد مطلقا : خطأ .
وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا ، وهذا ، وما هو الأصلح له في كل حال : فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم” انتهى من ” مجموع الفتاوى ” (10 / 425 ).
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب