0 / 0
59,17713/08/2014

هل المصاب بالتوحد مكلَّف ؟

السؤال: 214189

أرجو الإجابة على هذا السؤال المهم لأنه سيساعد الكثير من الآباء :
هل هؤلاء الذين يعانون من التوحد ( الأوتزم ) يصنفون إسلامياً على أنهم مختلون عقلياً ؟
لأن التوحد عبارة عن عجز دائم في نمو الدماغ ، بحيث يؤثر على كيفية تواصل الشخص مع من حوله من الناس ، ويؤثر أيضاً على إدراكه للعالم من حوله ، فقد تراه مثلاً يعجز عن فهم البرتوكولات الاجتماعية والثقافية التي تعارف عليها البشر ، كما أن المصاب بهذا المرض يجد صعوبة في التعبير عن خلجات نفسه وعواطفه ، وقد يقرأ بطلاقة لكنه لا يفهم معنى كل كلمة خاصة الكلمات والعبارات الصعبة ، ويجد صعوبة في فهم الفكاهات والاستعارات اللفظية ، ولا يدرك حقيقة وجود خطر في شيء ما من حوله ، وتجده إما مفرط الحساسية ، أو عديم الإحساس تجاه بعض الأصوات ، والمذاقات ، والروائح ، والألوان ، وقد تجده يكرر بعض الألفاظ ويدور في حلقة مفرغة ، والكثير الكثير من الأشياء التي تجعله إنساناً غير سوي ، مختلفاً عن غيره من البشر .
وكل هذا بالطبع يلقي بظلاله على طريقة تعامله مع الشرع وأحكامه ، وفهم الحكمة من بعض الأمور في الدين .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

التوحد أو الذاتوية (Autism) أحد الاضطرابات التابعة لمجموعة من اضطرابات التطور المسماة باللغة الطبية ” اضطرابات في الطيف الذاتوي ” (Autism Spectrum Disorders – ASD)
” وهو اضطراب صحي يظهر في الطفولة الباكرة ، ويؤثر على تطور الطفل من خلال تأثيره على قدرة الطفل على التواصل والتفاعل مع الآخرين ، وتشير التقديرات إلى أن طفلاً واحداً يصاب بالتَّوَحُّد أو الذاتوية من كل مائة طفل في العالم .
يتدرج التَّوَحُّد أو الذاتوية من الاضطراب البسيط في التواصل أو في السلوك إلى حالات التَّوَحُّد أو الذاتوية الشديدة ، وفي هذه الحالات الشديدة ، يمكن أن يعجز الطفل تماماً عن التواصل أو التفاعل مع الآخرين ، لا يوجد شفاء من التَّوَحُّد أو الذاتوية ، ولكن المعالجة الباكرة يمكن أن تساعد الكثير من الأطفال على تحسين حياتهم ”
ينظر ” موسوعة الملك عبد العزيز العربية للمحتوى الصحي ” على الرابط الآتي :
http://cutt.us/9jfo0
وبالرغم من اختلاف خطورة وأعراض مرض التوحد من حالة إلى أخرى ، إلا أن جميع اضطرابات الذاتوية تؤثر على قدرة الطفل على الاتصال مع المحيطين به ، وتطوير علاقات متبادلة معهم .
ولكن لما كان هذا التفاوت حاصلا في درجات المرض ، ومستويات تأثر الطفل به ، كان لا بد من التفصيل في دخوله دائرة التكليف ، فنقول :
أولا :
إذا كان مرض التوحد قد بلغ بالمصاب به حدا يوصف فيه بالتخلف العقلي ، أو يفقد معه التمييز والقدرة على الحكم على الأشياء من حوله ، فلا شك بسقوط التكليف عنه في هذه الحالة ، وأنه يرفع القلم عنه ؛ فالعقل مناط التكليف ومحوره ، فإذا فُقِد لمرض أو خلل أو عارض ، زال التكليف نفسه ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : ( رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ) رواه أبوداود في ” السنن ” (رقم/4403) ، وصححه الألباني في ” صحيح أبي داود “.
يقول الآمدي رحمه الله :
” اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلا فاهما للتكليف ; لأن التكليف وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال ، كالجماد والبهيمة .
ومن وجد له أصل الفهم لأصل الخطاب ، دون تفاصيله من كونه أمرا ونهيا ، ومقتضيا للثواب والعقاب ، ومن كون الآمر به هو الله تعالى ، وأنه واجب الطاعة ، وكون المأمور به على صفة كذا وكذا ، كالمجنون والصبي الذي لا يميز ، فهو بالنظر إلى فهم التفاصيل كالجماد والبهيمة بالنظر إلى فهم أصل الخطاب ، ويتعذر تكليفه أيضا ” .
انتهى من ” الإحكام في أصول الأحكام ” (1/150) .
ثانيا :
أما إذا لم تظهر أعراض التخلف العقلي على مريض التوحد ، وانحصرت العلة في العزلة ، أو النمطية ، أو ضعف الإحساس بالأشياء ، أو ضعف فهم اللغة وأساليبها ، ولم تخرج عن هذا الإطار ، ففي هذه الحالة يبقى التكليف الشرعي ، ويؤاخذ هذا العبد بأقواله وأفعاله في الدنيا والآخرة . فالمرض في هذه الحالة لم يفقد المريض قدرته على تمييز الصواب من الخطأ ، والصلاح من الفساد ، والخير من الشر ، والمعروف من المنكر ، والإحسان من الجريمة ، وهذا القدر من ” العقل “، و ” التمييز “، هو مناط التكليف والسؤال بين يدي الله سبحانه ، فإذا كان مريض التوحد يدرك أن السرقة شر وفساد وجريمة ، ثم أقدم عليها ، فهو مسؤول عن ذلك كله .
ثالثا :
أما إذا اضطرب حال المريض ، فمرة يفقد قدراته الإدراكية ، وأخرى يسترجعها ويكون قادرا على تمييز تصرفاته وضبطها ، ففي هذه الحالة يحكم له بالتكليف حال إدراكه وتعقله ، ويسقط عنه التكليف حال طروء العلة به .
ومثل ذلك : لو أدرك أمرا معينا ، وغاب عنه إدراك أمر أو أمور ؛ فإنه يكلف بما أدركه ، ويسقط عنه التكليف فيما عجز عن إدراكه .
وهذا كله من مقتضى عدالة الشريعة المطلقة ، يدل عليه قول الله سبحانه وتعالى : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) القصص/59، وقال عز وجل : ( ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ) الأنعام/131.
وهذا التفاوت في التكليف ليس بمستنكر ، بل يقع حتى للإنسان السوي العاقل ، حيث يسقط عنه التكليف حال نومه أو نسيانه أو فقدان وعيه ، ونحوها من العوارض التي تؤثر في الأهلية ، والفقهاء تحدثوا عن الذي يُجن أحيانا ويُفيق أحيانا أخرى ، كما تحدثوا عن ” العته ” باعتباره علة تصيب العقل ، فتُفقده إدراكه في كثير من الأحيان .
والقاعدة في جميع هذه الصور : أن حال توافر العقل المدرِك يقع التكليف والمسؤولية ، وحال فقدانها يسقط التكليف ، وحال طروء الخلل عليها يحاسبه الله عز وجل بعدله المطلق .
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله :
” مورد التكليف هو العقل ، وذلك ثابت قطعا بالاستقراء التام ؛ حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسا ، وعد فاقده كالبهيمة المهملة ، وهذا واضح في اعتبار تصديق العقل بالأدلة في لزوم التكليف ” انتهى من ” الموافقات ” (3/209) .
وجاء في كتاب ” التقرير والتحبير ” لابن أمير حاج الحنفي (2/ 176) تعريف ” العته ” بقوله :
” آفة ناشئة عن الذات ، توجب خللا في العقل ، فيصير صاحبه مختلط الكلام ، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء ، وبعضه كلام المجانين ، فلا تجب العبادات عليه ، كما لا يجب على الصبي العاقل أيضا ، كما هو اختيار عامة المتأخرين ، و[لا تجب] العقوبات [عليه]، كما لا تجب على الصبي العاقل أيضا ، بجامع وجود أصل العقل ، مع تمكن خلل فيه فيهما ، دفعا للحرج ” انتهى.
وجاء في ” فتاوى اللجنة الدائمة ” (المجموعة الثانية 5/ 21) – وقد سئلت عن فتاة تصاب من حين لآخر بنوبات الصرع الهستيري ، وتفكيرها محدود ، بمعنى : أنها تفكر وتتصرف بعقول الصغار – فكان الجواب :
” إذا كانت هذه الفتاة تعقل أحيانا : فيجب عليها أداء الواجبات الشرعية من صلاة وصيام وغيرها حال عقلها ، وأما في حال غياب عقلها فإنه لا يجب عليها شيء من التكاليف الشرعية ؛ لحديث : ( رفع القلم عن ثلاثة ) . . . وذكر منهم : ( وعن المجنون حتى يفيق ) .
ويجب على والديها الإحسان إليها ، والرأفة بها ، وتعليمها ما تحتاج إليه من أمور دينها ودنياها ، وأهم ذلك أمرها بالصلاة وتعليمها ما يلزم لها من الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر وهم مأجورون على ذلك ” انتهى.
عبد العزيز بن باز – عبد العزيز آل الشيخ – بكر أبو زيد .
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
” هناك رجل ضعيف العقل ولكنه ليس مجنونا، إلا أنه لا يستطيع التمييز بين أشياء كثيرة ، فهو لا يستطيع العد من الواحد إلى العشرة مثلا مهما حاولنا معه ، هل يجب على مثل هذا الرجل الصيام والصلاة وضبطها عليه ، حيث إنه يكلف ببعض الأعمال ، مما يؤدي إلى عطشه كالرعي ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا ” .
فأجاب رحمه الله :
” إذا كان يعقل أن الله أوجب عليه الصوم والصلاة ، يفهم أنه خلق ليعبد الله ويميز فيما يتعلق بماله في ضبط ماله والتصرفات في ماله ، فهذا من العقلاء يلزمه أن يؤدي ما أوجبه الله عليه من صلاة وغيرها .
أما إن كان عقله قد اختل ، وتبين خلل عقله ، وأنه من جملة المعتوهين الذين ليس لهم عقل يميزون به بين الحق والباطل ، أو بين الخير والشر ، وبين ماله ومال غيره ، ونحو ذلك .. سقطت عنه ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن الصغير حتى يبلغ ) .
فالذي يشبه المجنون بعدم ضبطه للأمور ، وعدم حسن التصرف لأن عقله مفقود : فلا تكليف عليه.” انتهى من “فتاوى نور على الدرب” (6/14-15) .
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله ، أيضا :
” إذا كان لدي أخ أصم وأبكم فهو لا يسمع ولا يتكلم كما هو معلوم ، وطبعا لا يعرف شيئا عن الصلاة ولا الصوم ولا الزكاة ، ولا يعرف شيئا عن أحكام الإسلام ، ولا يعرف شيئا من القرآن. كيف يكون التوجيه والحالة هذه ؟
فأجاب :
” هذا لا بد أن يفعل معه ما يعلم به عقله بالإشارة إذا كان بصيرا ، وينبغي أن يعلم الصلاة بالفعل؛ فيصلي عنده وليه أو غيره ، ويشار له أن يفعل هذا الفعل ، مع بيان الأوقات بالطريقة التي يفهمها ، أو بتعليمه الصلاة كل وقت بالفعل بعد أن يعلم أنه عاقل ، ويكتب له إن كان يعرف الكتابة حقيقة العقيدة الإسلامية ، وأركان الإسلام مع بيان معنى الشهادتين ، وهكذا بقية أحكام الشرع توضح له كتابة .
ومن ذلك أحكام الصلاة من الوضوء والغسل ومن الجنابة ، وبيان الأوقات ، وأركان الصلاة وواجباتها وما يشرع فيها ، وبيان السنن الراتبة ، وسنة الضحى والوتر إلى غير ذلك مما يحتاجه المكلف لعله يستفيد من الكتابة .
ومتى علم عقله بأي وسيلة : ثبت أنه من المكلفين إذا بلغ الحلم بإحدى علاماته المعلومة، ولزمته أحكام المكلفين حسب علمه وقدرته .
أما إن ظهر من حاله أنه لا يعقل : فلا حرج عليه ، لأنه غير مكلف ، كما جاء في الحديث الصحيح: رفع القلم عن ثلاثة: الصغير حتى يبلغ ، والمعتوه حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ ” انتهى من ” مجموع فتاوى ابن باز ” (5/ 281) .
والخلاصة :
أن مريض التوحد لا يحكم عليه بحكم مطلق ، بل كل حالة بحسبها ، فإن لم يفقد قدراته العقلية التي يميز بها بين الخير والشر ، والصواب والخطأ ، فهو مكلف ، مؤاخذ على أقواله وأفعاله ، وحسابه عند ربه . أما إذا فقد تلك القدرات ، أو ضعفت واختلت ، سقط عنه التكليف شرعا ، ووجب على من حوله مراعاة ذلك في أمره ونهيه وتعليمه .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android