أولا :
لا بد من تقرير أمر مهم في بداية الجواب ، سببه أننا استشعرنا في السؤال قدرا من المبالغة في خطورة المسألة ، وأنها قضية فتنة واختبار ، وحقيقة الأمر أنها مسألة علمية بحثية ، تناقش قضايا إسنادية وتاريخية ، الاختبار فيها إنما هو للعقل البحثي ، كيف يناقش ، وكيف يدرس الوثائق ويتحقق من الروايات ، ويتغلب على الأهواء أو المؤثرات ، ولا تتجاوز ذلك إلى أن تكون قضية إيمان ونقيضه ، أو فتنة ما بين الهدى والضلال ، فالأمر أيسر من ذلك ، ولا ينبغي مجاوزة أقدار المسائل في العلم كي لا تتيه الحقائق في غمرة ذلك الغلو ، بل إن المسألة لا تدخل في دائرة القطعيات المعلومات من الدين بالضرورة ، فليست قرآنا منزلا ، ولا ركنا من عقائد المسلمين .
كل ذلك نقرره كي تتناول السائلة الباحثة المسألة بقدر من الهدوء والروية ، بعيدا عن سيف الفتنة والتضليل ، وحينها ستكتشف أن تقدير مراتب العلم ، وإنزال المسائل حقها من غير إفراط ولا تفريط ، أحد أهم أسباب التوفيق إلى أصواب الأقوال بإذن الله .
ثانيا :
أما مناقشة الأسانيد الأربعة الواردة في السؤال فأمر سهل وميسور إن شاء الله .
أما إسناد الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة .
فالأعمش – وهو سليمان بن مهران (ت148هـ) – موصوف بالتدليس عند النسائي والدارقطني كما في " طبقات المدلسين " (ص/33) والتدليس مذموم على وجه العموم ، ولكن من عرف حقيقة التدليس وصوره وأسبابه تبين له أن من الخطأ التعامل مع جميع المدلسين بحكم مطلق واحد ترد به جميع أحاديثهم ، بل الأمر فيه تفصيل وشرح مطول ، كتبت فيه الأبحاث المطولة ، وألفت فيه المجلدات الضخام ، وليس من المقبول - في أدنى أساسيات العقول - أن ترفض كل تلك العلوم والتحقيقات في أحاديث المدلسين بجرة قلم من غير مختص ، دفعه إلى ذلك جهله بذلك العلم ، أو حبه لإثبات ما يوافق هواه ورأيه .
فإذا كان المدلس حافظا ضابطا إماما في الحديث ، فلماذا ترد جميع مروياته ، أليس التدليس – في أشهر صوره وتعريفاته – هو تحديث الراوي عن شيخ سمع منه ما لم يسمعه منه ، بصيغة محتملة كالعنعنة . فإذا تحققت الضمانة بأن هذا الراوي الثقة – وإن كان وقع في التدليس في بعض الأحيان – ولكنه في أحاديث معينة رواها على وجهها ، ولم يسقط أحدا من الرواة ، فلماذا يرد جميع حديثه حينها ؟! أليست العدالة تقتضي أن يرد الحديث الذي يغلب على الظن أنه قد دلس فيه فقط ، أما ما جاءت الأدلة بأنه لم يمارس فيه التدليس نقبله ونأخذ به !
هذا حاصل ما يقرره عامة علماء الحديث ، حتى الإمام الشافعي رحمه الله حين يقول : " من عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في روايته . وليست تلك العورة بالكذب فنرد بها حديثه ، ولا النصيحة في الصدق ، فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق . فقلنا : لا نقبل من مدلس حديثا حتى يقول فيه ( حدثني ) أو ( سمعت ) " انتهى من " الرسالة " (ص/378)
فالشافعي رحمه الله يقرر بكل وضوح أن التدليس ليس عورة ترد بها جميع الأحاديث ، وإنما ترد بها الرواية التي نخشى أن يكون دلس فيها ، فإذا قامت قرينة تنفي وقوع الراوي في تدليس حديث معين ، كأن يقول حدثني أو سمعت ، قبلنا حديثه .
وهكذا تعامل الأئمة مع أحاديث الأعمش رحمه الله ، فتشوا عن القرائن في مروياته ، فوجدوا أن الأعمش لا يدلس عن شيوخه الكبار الذين لازمهم سنوات طوالا ، وسمع منهم آلاف المرويات ، من أمثال إبراهيم النخعي الذي روى عنه هذه الرواية . لذلك قال الإمام الذهبي رحمه الله : " متى قال ( عن ) تطرق إليه احتمال التدليس ، إلا في شيوخ له أكثر عنهم ، كإبراهيم ، وأبي وائل صالح السمان ، فإن روايته عن هذا الصف محمولة على الاتصال " انتهى من " ميزان الاعتدال " (2/224)
بل إن الأعمش ليس من المكثرين من التدليس ، وتدليسه قليل في جنب ما روى ، فمثله لا يرد العلماء حديثه .
قال يعقوب بن شيبة : " سألت علي بن المديني عن الرجل يدلس ، أيكون حجة فيما لم يقل " حدثنا " ؟ قال : إن كان الغالب عليه التدليس فلا ، حتى يقول : حدثنا " انتهى من " الكفاية " (362)
وقال الإمام مسلم رحمه الله : " إنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم ، إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به ، فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته ، ويتفقدون ذلك منه حتى تنزاح عنهم علة التدليس ". " مقدمة صحيح مسلم " (1/32)
وقال يعقوب بن سفيان : " حديث سفيان وأبي إسحاق ، والأعمش ، ما لم يعلم أنه مدلَّس ، يقوم مقام الحجة " انتهى من " المعرفة والتاريخ " (2/637)
هذا هو كلام الأئمة في التدليس والمدلسين ، كله يدل على التفصيل في حكم حديث المدلس ، وليس رده مطلقا ، بل الاعتماد على القرائن هو الأساس ، ومن تلك القرائن قلة تدليس الراوي في جنب ما روى ، وهي المرتبة الثانية من مراتب المدلسين – بحسب تقسيم الحافظ ابن حجر رحمه الله – حيث قال : " من احتمل الائمة تدليسه ، وأخرجوا له في الصحيح لإمامته ، وقلة تدليسه في جنب ما روى ، كالثوري ، أو كان لا يدلس إلا عن ثقة ، كابن عيينة " انتهى من " طبقات المدلسين " (ص/13). وهي الطبقة التي ذكر فيها الأعمش (ص/33)
والكلام السابق أيضا ينطبق على الإمام الزهري رحمه الله ، فقد قال عنه الذهبي رحمه الله : " الحافظ الحجة كان يدلس في النادر " انتهى من " ميزان الاعتدال " (6/235)، لذلك قال الإمام العلائي رحمه الله : " قد قبل الأئمة قوله ( عن )" ينظر " جامع التحصيل "، وكذا قال سبط ابن العجمي في " التبيين في أسماء المدلسين ". ولا تجد حديثا واحدا ضعفه الأئمة المتقدمون بحجة عنعنة الإمام الزهري ، بل مروياته وأحاديثه مشهورة في جميع كتب السنة من غير نكير ولا تنقير عن عنعناته . وإنما رد العلماء أحاديث محصورة معدودة ، تبين لهم أنه قد وقع فيها التدليس بخصوصها ، ولم يردوا جميع مروياته . تجد تلك المرويات في كتب " المراسيل ".
نعم نسلم أن الحافظ ابن حجر رحمه الله عد الإمام الزهري في الطبقة الثالثة (ص/45)، وهم " مَن أكثر مِن التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع ". ولكن الراجح ما ذكرناه آنفا عن أكثر العلماء . ينظر كتاب " منهج المتقدمين في التدليس " (ص/84-86)
أما الجواب عن هشام بن عروة واتهامه بالتخليط آخر عمره ، وكون جميع من روى عنه هذا الحديث من أهل العراق وليس من أهل المدينة ، فقد سبق الجواب عنها في موقعنا في الفتوى رقم : (124483)، نرجو الاطلاع عليها والتأمل في جميع أسماء الرواة المدنيين وغيرهم ، لنكتشف خطأ دعوى تفرد العراقيين عنه بهذا الحديث .
وأما الإسناد المشتمل على محمد بن عمرو ، فهو عند أبي داود في " السنن " (4937) يروي عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن عائشة رضي الله عنها .
ومحمد بن عمرو هو ابن علقمة بن وقاص الليثي (ت145هـ)، قال فيه ابن معين : ثقة . وقال ابن المبارك : ليس به بأس . وقال النسائي : ليس به بأس . وقال فى موضع آخر : ثقة .
وقال أبو أحمد بن عدى : له حديث صالح ... أرجو أنه لا بأس به. وإنما وجد العلماء في روايته بعض الأخطاء ، فأنزلته عن درجة الحفظ والإتقان ، فقال ابن حبان : كان يخطئ . وقال أبو حاتم : صالح الحديث ، يكتب حديثه ، وهو شيخ . وقال يحيى القطان : ليس بأحفظ الناس للحديث . ينظر " تهذيب التهذيب " (9/376).
وهكذا تجد أن عبارات نقاد الرواة تميل إلى توثيقه مع بعض التحفظ على أخطائه ، فلا ينزل حديثه عن درجة الحسن ، وإنما إذا وجد في حديثه نكارة ، أو تفرد برواية معينة : يتوقف فيها حينئذ . ولكن روايته حديث عائشة هنا وافَقَه عليها غيره من الأئمة الكبار ، وليس فيها ما يستنكر لدى جميع العلماء . فدعوى ضعفه بإطلاق ، ورد جميع مروياته مخالفة للمنهجية العلمية المعتدلة .
نرجو أن يكون فيما سبق بيان للتحقيق العلمي في المسألة ، وتوضيح للعلم الحقيقي الذي يقتضيه العقل السليم والمنهج البحثي القويم ، وليس الكلام المرسل ، والتعميمات التي سببها قلة الاطلاع وعدم التخصص .
والله أعلم .