فقد منَّ الله عليَّ بصوت حسن وتلاوة طيبة لكتابه العزيز ، وقد اقترح عليَّ أهل المسجد أن أكون إماماً لهم في صلاة التراويح ، علماً بأني أحفظ أكثر من نصف القرآن ، وأسأل الله أن يتم عليَّ نعمته بحفظ كتابه ، وقد ترددت في البداية خوفاً من الرياء لكنِّي استخرت الله عز وجل ، ثم قبلت ، والآن أنا أؤم القوم في المسجد ولكني أخاف من الرياء وأن يحبط عملي ، ودائما أسأل الله الإخلاص ، وتراني أحاول إتقان التلاوة عندما أؤم الناس لكي يخشعوا أما أنا فأتأثر بالآيات إذا قرأتها وحدي ، وعندما أكون إماماً أحاول أن أتأثر بها وأن أتفكر في معانيها لكني قلَّ ما أفعل , وإن فعلت فأحاول أن لا أظهر ذلك أمام الناس .
فماذا يجب أن تكون نيتي وأنا أؤم الناس ؟ وكيف أحقق الإخلاص وأتغلب على وسواس الرياء ؟ .
وجزاكم الله خيراً .
هل تحسين القراءة في الصلاة من الرياء ؟ وهل يترك الإمامة من يخاف من ذلك ؟
السؤال: 156796
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
اعلم أخانا الفاضل أن للشيطان مداخل على الصالحين ليتركوا طاعاتهم وعباداتهم ، فليس كل ما تشعر به أنه رياء هو كذلك ، وودَّ الشيطان لو ظفر بهذا من مثلك ليترك أحدكم طاعته وعبادته فيحقق للشيطان مقصوده ، وإنما يبحث المسلم عن قلبه فيرى سلامته من عدمه ، وينزه أفعاله أن تُصرف لغير الله ، فيحافظ على عبادته أن لا يقوم بها ، ويحافظ عليها أن لا يضيع أجرها عند ربه .
ثانياً:
ومما ينبغي عليك معرفته أن تحسين الصوت وإتقان التلاوة في الصلاة ليسمعها الناس ليست من باب الرياء والسمعة من جهة ، وهي كذلك من جهة أخرى :
1. فإذا كنتَ تقصد بحسن قراءتك حصول الخشوع لقلبك والبكاء لعينك ، أو من أجل أن يتأثر الناس : فعملك مشروع ، بل هو مرغَّب فيه ، ومما يدل على ذلك :
أ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ ) .
رواه البخاري ( 7089 ) .
قال النووي – رحمه الله – :
وقوله ( يتغنى بالقرآن ) معناه عند الشافعي وأصحابه وأكثر العلماء من الطوائف وأصحاب الفنون : يحسِّن صوته به .
” شرح مسلم ” ( 6 / 78 ) .
والحديث رواه أبو داود ( 1471 ) وفيه زيادة :
قَالَ عبد الجبار بن الورد – أحد رجال الإسناد – : فَقُلْتُ لِابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَرَأَيْتَ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الصَّوْتِ ؟ قَالَ : ” يُحَسِّنُهُ مَا اسْتَطَاعَ ” .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – :
الذي يتحصل من الأدلة : أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب ، فإن لم يكن حسناً فليحسنه ما استطاع كما قال ابن أبي مليكة أحد رواة الحديث ، وقد أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح .
” فتح الباري ” ( 9 / 72 ) .
ب. عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ ) .
رواه أبو داود ( 1468 ) والنسائي ( 1015 ) وابن ماجه ( 1342 ) .
قال الإمام أبو بكر الآجُرِّي – رحمه الله – :
عن صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه قال : قلت له قول النبي صلى الله عليه وسلم ( زينوا القرآن بأصواتكم ) ما معناه ؟ قال : التزين : أن تحسِّنه .
” أخلاق أهل القرآن ” ( ص 160 ) وصححه محققه عنه .
ومما يؤكِّد جواز التكلف من أجل تحسين القراءة وجمال الصوت :
ج. عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْمَعُ قِرَاَءَتَكَ الْبَارِحَةَ لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ ) فَقَالَ : لَوْ عُلِّمْتُ لحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيراً .
رواه البيهقي في ” سننه ” ( 3 / 12 ) وقال الألباني – في ” صحيح أبي داود ” ( 5 / 232 ) – : سنده جيد على شرط مسلم .
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – :
فدل على جواز تعاطي ذلك وتكلفه ، وقد كان أبو موسى كما قال عليه السلام قد أعطي صوتاً حسناً ، مع خشية تامة ورقة أهل اليمن الموصوفة ، فدل على أن هذا من الأمور الشرعية .
” تفسير ابن كثير ” ( 1 / 63 ) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – :
قال العلماء : وفي هذا دليل على أن الإنسان لو حسَّن صوتَه بالقرآن لأجل أن يتلذذ السامع ويسر به : فإن ذلك لا بأس به ، ولا يعدُّ من الرياء ، بل هذا مما يدعو إلى الاستماع لكلام الله عز وجل حتى يسر الناس به .
” شرح رياض الصالحين ” ( 4 / 662 ) .
2. وأما إن كنتَ تحسِّن صوتك في قراءتك للقرآن من أجل أن يمدحك الناس ، أو من أجل أن يقولوا : هذا قراءته جيدة : فيكون فعلك من باب الرياء والسمعة .
قال الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله – :
والرياء مأخوذ من الرؤية ، وذلك بأن يزيِّن العمل ويحسِّنه من أجل أن يراه الناس ويمدحوه ويثنوا عليه ، أو لغير ذلك من المقاصد ، فهذا يسمَّى رياء ؛ لأنه يقصد رؤية الناس له .
والفرق بين الرياء والسمعة : أن الرياء فيما يُرى من الأعمال التي ظاهرها لله وباطنها لغيره كالصلاة والصدقة ، أما السمعة : فهي لِمَا يُسْمَع من الأقوال التي ظاهرها لله والقصد منها لغير الله كالقراءة والذكر والوعظ وغير ذلك من الأقوال ، وقصد المتكلِّم أن يَسمع النّاس كلامه فيثنوا عليه ، ويقولوا : هو جيِّد في الكلام ، جيِّد في المحاورة ، جيِّد في الخُطْبة ، إنه حسن الصوت في القرآن إذا كان يحسِّن صوته بالقرآن لأجل ذلك ، فإذا كان يُلقي المحاضرات والندوات والدروس من أجل أن يمدحه النّاس : فهذا سُمعة .
” إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد ” ( ص 646 ) .
ثالثاً:
نختم معك سؤالك المهم بوصيتين جامعتين إحداهما لإمامٍ من السلف ، والأخرى لإمام معاصر ، ومع الوصية الثانية إجابة على مسائلك كلها ؛ حيث ورد لصاحبها سؤال مطابق لسؤالك .
أ. قال الإمام أبو بكر الآجُرِّي – رحمه الله – :
ينبغي لمن رزقه الله حسن الصوت بالقرآن أن يعلم أن الله قد خصه بخير عظيم ؛ فليعرف قدر ما خصه الله به ، وليقرأ لله ، لا للمخلوقين ، وليحذر من الميل إلى أن يستمع منه ليحظى به عند السامعين رغبة في الدنيا ، والميل إلى حسن الثناء والجاه عند أبناء الدنيا ، والصلات بالملوك ، دون الصلات بعوام الناس ؛ فمن مالت نفسه إلى ما نهيته عنه : خفت أن يكون حسن صوته فتنة عليه ، وإنما ينفعه حسن صوته إذا خشي الله عز وجل في السر والعلانية ، وكان مراده أن يستمع منه القرآن لينتبه أهل الغفلة عن غفلتهم ، فيرغبوا فيما رغبهم الله عز وجل ، وينتهوا عما نهاهم ؛ فمن كانت هذه صفته انتفع بحسن صوته ، وانتفع به الناس.
” أخلاق أهل القرآن ” ( ص 161 ) .
ب. سئل الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – :
ما هو السبيل في عدم الشعور بإتقان الصلاة والخشوع فيها ؛ حيث إنني أقوم إماماً لأهل الحي في الصلوات الخمس ولله الحمد ، ولكن كل محاولتي لحفظ القرآن وتجويد القراءة أثناء كل صلاتي : أشعر أني أرائي الناس فيها ، خاصة الصلوات الجهرية ، حيث إنني أحسن من الصوت وإطالة القراءة حتى يخيل إليَّ أني أفعل ذلك من أجل إشعار الناس أني أهل للإمامة ، ما حكم ذلك ؟ .
فأجاب :
عليك – يا أخي – أن تستمر في عملك هذا ، مع سؤال الله التوفيق للإخلاص ، والحرص على التعوذ بالله من الرياء ، وأبشر بالخير ، ودع عنك الوساوس التي يمليها الشيطان بأنك تقصد الرياء وتحسين صوتك لأجل مدح الناس أو ليقولوا : إنك أهل للإمامة ، دع عنك هذه الوساوس ، وأبشر بالخير ، وأنت مأمور بتحسين الصوت في القراءة حتى ينتفع بك المأمومون ، ولا عليك شيء مما يخطر من الوساوس بل حاربها ، حاربها بالتعوذ بالله من الشيطان ، وسؤال الله التوفيق والهداية والإعانة على الخير ، وأنت على خير عظيم ، واستمر في الإمامة ، وأحسن إلى إخوانك ، واجتهد في تحسين الصوت ، فقد جاء الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن – يجهر به – ) يعني : يحسِّن صوته بالقراءة ، فتحسين الصوت بالقراءة من أعظم الأسباب للتدبر والتعقل ، وفهم المعنى ، والتلذذ بسماع القرآن ، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ما أذِن الله لشيء ما أذن لنبيٍّ حسن الصوت بالقرآن يجهر به ) – رواه البخاري – يعني : ما استمع الله سبحانه لشيء كاستماعه لنبي ، وهو استماع يليق بالله لا يشابهه صفات المخلوقين ؛ فإن صفات الله سبحانه تليق به لا يشابهه أحد من خلقه جل وعلا ، كما قال سبحانه ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) الشورى/ 11 ، ولكن يدلنا هذا على أن الله سبحانه يحب تحسين الصوت بالقراءة ، ويحب أن القراء يجتهدون في تحسين أصواتهم حتى ينتفعوا وحتى ينتفع من يستمع لقراءتهم ، وما يخطر ببالك من الرياء : فهو من الشيطان ، فلا تلتفت إلى ذلك ، وحارب عدو الله بالاستعاذة بالله منه ، والاستمرار بتحسين صوتك ، والإحسان في قراءتك ، مع الخشوع في ركوعك وسجودك وسائر أحوال الصلاة ، وأنت على خير إن شاء الله ، نسأل الله لنا ولك التوفيق والثبات على الحق .
” مجموع فتاوى الشيخ ابن باز ” ( 30 / 129 – 131 ) .
فقد تبين أن تحسين صوتك في القراءة أمر مرغَّب به محمود ، وتجنب فعل ذلك من أجل مدح الناس لك ، ولتكن نيتك الاستجابة لأمر النبي صلى اله عليه وسلم بالتغني بالقرآن ، وبتزيينه بالصوت الحسن ، ولتكن نيتك أن يتأثر الناس بكلام الله ويخشعون بسماعه ، وجاهد نفسك لتكون واحداً منهم في تأثير القرآن عليك ، واصرف عنك وسوسة الشيطان بترك الإمامة ، بل ابق فيها مع حسن النية والقصد .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب