هوّن على نفسك يا أخي ولا تيأس ولا تحزن ، وأحسن الظن بربك ؛ فإن الرب تعالى عند ظن عبده به ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
واعلم أنك تسعى فيما تجري به المقادير حسب ما قدر الله عليك قبل خلقك ، وأنه مدركك لا محالة ما كتب الله عليك .
قال الله تعالى : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) الحديد/22، 23
وقال السعدي رحمه الله :
" وهذا شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق ، من خير وشر ، فكلها قد كتبت في اللوح المحفوظ ، صغيرها وكبيرها ، وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول ، بل تذهل عنده أفئدة أولي الألباب ، ولكنه على الله يسير ، وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم ، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر ، فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم ، مما طمحت له أنفسهم وتشوفوا إليه ، لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ ، لا بد من نفوذه ووقوعه ، فلا سبيل إلى دفعه ، ولا يفرحوا بما آتاهم الله فرح بطر وأشر ، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم ، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه ، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ودفع النقم " انتهى .
"تفسير السعدي" ( ص 842)
وهذا من ثمرة الإيمان بالقدر ، ولذلك تجد المؤمن – والمؤمن وحده - حين يعلم ذلك يهنأ بين نعمتين : نعمة الشكر ونعمة الصبر .
روى مسلم (2999) عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ : إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ )
واعلم أن العبد يطلبه رزقه كما يطلبه أجله ، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها .
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، خذوا ما حل ودعوا ما حرم ) .
رواه ابن ماجة (2144) وصححه الألباني .
فلا تجزع كل الجزع على ما يصيبك منها ، وأحسن الظن بالله وتوكل عليه ؛ فإنه حَسْب من يتوكل عليه ، لا يضيعه أبدا ، وإنما يحفظه ويحفظ ذريته من بعده .
( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق/ 2 ، 3 .
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ) .
رواه الترمذي (2344) وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وصححه الألباني .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله :
" حديث عمر هذا يدلُّ على أنَّ النَّاس إنَّما يُؤتون مِنْ قلَّة تحقيق التوكُّل ، ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها ، فلذلك يُتعبون أنفسَهم في الأسباب ، ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد ، ولا يأتيهم إلاّ ما قُدِّر لهم ، فلو حَقَّقوا التوكُّلَ على الله بقلوبهم ، لساقَ الله إليهم أرزاقهم مع أدنى سببٍ ، كما يسوقُ إلى الطَّير أرزاقها بمجرَّدِ الغدوِّ والرواح ، وهو نوعٌ من الطَّلب والسَّعي ، لكنه سعيٌ يسيرٌ .
وربما حُرِمَ الإنسانُ رزقَهُ أو بعضَه بذنب يُصيبه ، وقال عمر : بين العبد وبين رِزقه حِجاب ، فإن قنع ورضيت نفسه ، آتاه رزقُه ، وإنِ اقتحم وهتك الحجاب ، لم يزد فوقَ رزقه " انتهى "جامع العلوم والحكم" (2/321) .
فليكن توكلك على الله ، يا عبد الله ، وثقتك به ، ورجاؤك فيه ، لا في الأسباب ، والأعمال الدنيوية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ : مَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالُوا : الِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ ، وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ . وَإِنَّمَا التَّوَكُّلُ وَالرَّجَاءُ مَعْنًى يَتَأَلَّفُ مِنْ مُوجِبِ التَّوْحِيدِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . وَبَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّ الِالْتِفَاتَ إلَى السَّبَبِ هُوَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَيْهِ وَرَجَاؤُهُ وَالِاسْتِنَادُ إلَيْهِ ، وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا يَسْتَحِقُّ هَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَقِلًّا وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شُرَكَاءَ وَأَضْدَادٍ ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ فَإِنْ لَمْ يُسَخِّرْهُ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ لَمْ يُسَخَّرْ ، وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَالْأَفْلَاكَ وَمَا حَوَتْهُ لَهَا خَالِقٌ مُدَبِّرٌ غَيْرَهَا " انتهى .
"مجموع الفتاوى" ( 8 / 169 ) .
فإذا علمت أن السعي في طلب الرزق ، ومزاولة الأعمال ، والأخذ بالأسباب ، إنما هي مفاتيح لنيل ما عند الله جل جلاله ، فلا تقف عند باب واحد ، فربما أغلق عليك ، ليفتح لك ما هو خير منه ، وربما فاتك هذا ، لتدرك آخر قد سبق لك في اللوح المحفوظ قسمه وتقديره ؛ فاجعل شغلك بما عند الله ، وهمك في طاعته ، وتنفيذ أمره .
قال ابن القيم رحمه الله :
" فرِّغ خاطرك للهمِّ بما أُمرت به ، ولا تشغله بما ضمن لك ؛ فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان ، فما دام الأجل باقيا كان الرزق آتيا ، وإذا سد عليك بحكمته طريقا من طرقه ، فتح لك برحمته طريقا أنفع لك منه ؛ فتأمل حال الجنين : يأتيه غذاؤه وهو الدم ، من طريق واحدة وهو السرة ، فلما خرج من بطن الأم وانقطعت تلك الطريق ، فتح له طريقين اثنين ، وأجرى له فيهما رزقا أطيب وألذ من الأول : لبنا خالصا سائغا ، فإذا تمت مدة الرضاع وانقطعت الطريقان بالفطام ، فتح طرقا أربعة أكمل منها : طعامان وشرابان ؛ فالطعامان من الحيوان والنبات ، والشرابان من المياه والألبان ، وما يضاف اليهما من المنافع والملاذ ، فإذا مات انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة ، لكنه سبحانه فتح له ـ إن كان سعيدا ـ طرقا ثمانية ، وهى أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ، فهكذا الرب سبحانه لا يمنع عبده المؤمن شيئا من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه ، وأنفع له ، وليس ذلك لغير المؤمن ، فإنه يمنعه الحظ الأدني الخسيس ، ولا يرضي له به ، ليعطيه الحظ الأعلى النفيس ، والعبد لجهله بمصالح نفسه ، وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه ، لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وبين ما ذخر له ، بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئا ، وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان عليا !! " .
"الفوائد" ، لابن القيم (57) .
راجع لمعرفة دعاء الكرب والحزن جواب السؤال رقم : (5112)
وراجع في التوكل والأخذ بالأسباب جواب السؤال رقم (130499)
وراجع للاستزادة جواب السؤال رقم : (71236) ، (118262)
والله تعالى أعلم .