قرأت كتاب “أزواج النبي” للعبد المنعم الهاشمي، ووجدتُ في باب الرحلة للشام قصة غريبة، التي تزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع من كتب النصارى، وسمع لقصص ثمود قبل البعثة والنبوة، والمصدر في الكتاب هو ابن إسحاق، و”تاريخ الإسلام” للذهبي، لكن بعد بحثت عن القصة، وجدتها في ” السيرة” لمحمد حسين هيكل فقط، وأريد أن أعرف صحة القصة، وإذا هي حقا في ابن إسحاق و”تاريخ الإسلام” للذهبي، القصة يلي:
” في هذه الرّحلة وقعت عينا محمد الجميلتان على فسحة الصحراء، وتعلقتا بالنجوم اللامعة في سمائها الصافية البديعة، وجعل يمرّ بمدين، ووادي القرى، وديار ثمود، وتستمع أذناه المرهفتان إلى حديث العرب وأهل البادية عن هذه المنازل، وأخبارها، وماضي نبئها، وفي هذه الرحلة وقف من بلاد الشام عند الحدائق الغنّاء اليانعة، التي أنسته حدائق الطائف، وما يروى عنها، والتي تبدّت له جنات إلى جانب جدب الصحراء المقفرة، والجبال الجرداء فيما حول مكة، وفي الشام كذلك عرف محمد أخبار الروح، ونصرانيتهم، وسمع عن كتابهم”.
في رحلة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام، هل أخذ فيها شيئا من علم أهل الكتاب؟
السؤال: 426057
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
ما عزاه الكاتب إلى الذهبي وابن إسحاق، إنما هو لأصل القصة المشهورة عن رحلة النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في تجارة إلى الشام ولقياه لبحيرا الراهب.
فذكرها الذهبي في “تاريخ الإسلام” (1 / 502 – 505) من رواية ابن إسحاق وغيره.
لكن الذهبي ضعّف القصة، حيث قال:
” وهو حديث منكر جدا؛ وأين كان أبو بكر؟ كان ابن عشر سنين، فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين ونصف؛ وأين كان بلال في هذا الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث، ولم يكن ولد بعد؛ وأيضا، فإذا كان عليه غمامة تُظِلُّه؛ كيف يتصور أن يميل فيءُ الشجرة؟ لأن ظل الغمامة يُعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها، ولم نر النبي صلى الله عليه وسلم ذكّر أبا طالب قط بقول الراهب، ولا تذاكرته قريش، ولا حكته أولئك الأشياخ، مع توفر هممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك، فلو وقع لاشتُهر بينهم أيما اشتهار، ولبقي عنده صلى الله عليه وسلم حس من النبوة؛ ولما أنكر مجيء الوحي إليه، أوّلًا بغار حراء… ” انتهى من “تاريخ الإسلام” (1 / 503 – 504).
ومن أهل العلم من يصحح أصلها مع استنكار بعض التفاصيل الواردة فيها.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
” وخرج به عمه إلى الشام في تجارة وهو ابن ثنتي عشرة سنة، وذلك من تمام لطفه به، لعدم من يقوم إذا تركه بمكة، فرأى هو وأصحابه، ممن خرج معه إلى الشام، من الآيات فيه صلى الله عليه وسلم، ما زاد عمه في الوَصاة به والحرص عليه، كما رواه الترمذي في جامعه بإسناد رجاله كلهم ثقات، من تظليل الغمامة له، وميل الشجرة بظلها عليه، وتبشير بحيرا الراهب به، وأمره لعمه بالرجوع به لئلا يراه اليهود فيرمونه سوءاً.
والحديث له أصل محفوظ وفيه زيادات أخر ” انتهى من “الفصول” (ص 93 – 94).
وأما كلام محمد حسين هيكل فلم يرد في شيء من أمهات كتب السيرة والتاريخ، بل هو محض تخيل من الكاتب، ساقه بأسلوب أدبي بليغ، ليروج على عامة القراء بطلاوته، دون تمحيص لمضمونه. ويظهر فيه تأثره بشبهات المستشرقين حيث كانوا يحاولون بشتى الطرق إثبات معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بعلوم أهل الكتاب قبل النبوة، حيث حوّلوا رحلة تجارية بسيطة إلى الشام، إلى رحلة علمية خالصة يجالس فيها عرب الصحراء فيأخذ أخبارهم، ويجالس كُتَّاب الشام فيأخذ علومهم، وهذا كله محض كذب وافتراء.
يقول الدكتور أكرم ضياء العمري:
” وقد حاول بعض المستشرقين أن يبني على هذه القصة اتهامات فيها مجازفة علمية، حيث زعموا أن النبي تلقى علم التوراة عن بحيرا، إذ كيف يعقل أن يتلقى النبي في سن الثانية عشرة علم التوراة في ساعة الطعام التي التقى خلالها ببحيرا، وهو أمي لا يحسن القراءة والكتابة؟! فضلًا عن حاجز اللغة، إذ لم يكن قد وجد في ذلك الوقت توراة ولا إنجيل باللغة العربية. وإذا كان المقصود رد أصول الإسلام إلى التوراة، فأين أثر تعاليم التوراة تلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وما بين لقائه ببحيرا وبعثته ثمانية وعشرون سنة!! ” انتهى من “السيرة النبوية” (1 / 110).
وننصح للأهمية بمطالعة الكتاب الفذ: “النبأ العظيم”، للعلامة الشيخ محمد عبد الله دراز، رحمه الله، وخاصة الفصل المتعلق بالبحث عن “مصدر القرآن الكريم”.
ولمزيد الفائدة طالع جواب السؤال رقم: (193519).
ومما ينصح به كل مسلم أن يتحرى في مطالعاته، فلا يأخذ دينه عن الكتاب الذين لم يعرفوا بالعلم الشرعي، بل يعتني بكتب أهل العلم الموثوق بهم، ومن أنفع الكتب في معرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله، كتاب “زاد المعاد” لابن القيم رحمه الله تعالى.
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة