0 / 0
27,22709/05/2017

الحكمة في تركيب شهوة المعصية في النفوس

السؤال: 243528

هل الله عز وجل يجعل العبد المؤمن مرتبطا أو ضعيفا أمام معصية ما ليظهر له ضعفه؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

إظهار ضعف الإنسان ليس هو الحكمة الأساسية المقصودة لنفسها، ولا المقصد الشرعي القائم بذاته، بل الأمر يراد لما هو أعلى وأسمى، وأقرب إلى الحكمة العامة للخلق كله، وهي حكمة “الابتلاء”، أي صراع الخير والشر، والحق والباطل، ليحق الحق عن عقل وإرادة واختيار، وليُعبد الله عز وجل عبادة حرة كما يحب سبحانه وتعالى، سواء كانت عبادة فعلية بامتثال ما يحبه الله ويرضاه، أم عبادة تركية باجتناب الشر والظلم والفسوق والعصيان، ولكن بعد معالجة نوازع الشر والعصيان المودعة في النفوس، لتكون عبادة حرة حقيقية، تختلف عن عبادة الملائكة الجبلية.
هذه هي الحكمة من خلق الإنسان ضعيفا بين يدي أسباب الهوى والشهوات، كما تلخصها لنا الآية الكريمة – وتلخص الجواب على سؤالك كله -، وهي قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) الكهف/7 .
فزينة الأرض كلها وما خلقت عليه من تأثير في قلب الإنسان إنما جعلت لاختبار حسن العمل. وبعبارة أخرى : يمكننا ادعاء أن هذه الحكمة هي أحد سياقات الحكمة من خلق الدنيا كلها، كما قال عز وجل: (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) هود/7. وقال سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2] .
فابتلاء “إحسان العمل” جاء بعد حرف اللام المبينة للحكمة من خلق السماوات والأرض ، ولخلق الحياة والموت بجميع تفاصيلها، وهو ما يفسر لنا أيضا قوله سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق: 12] أي : أن حكمة خلق السماوت والأرضين السبع أن يسلم العباد لله بالوحدانية، ويتوجهوا له بالعبادة، ولكنها العبادة الطوعية الاختيارية ، التي يحققها العبد بعد اعتلاج أسباب الخير والشر في نفسه وعقله، ولهذا خلق الإنسان من طين لازب، ومن نطفة أمشاج، قابلة للتغير والتعرض لكل أنواع الهوى والشهوات، وفي الوقت نفسه للعقل والحكمة والعفة، كما قال عز وجل: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان: 2، 3]، وقال سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام: 165]. وقال عز وجل: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35]
روى الإمام الطبري بسنده في “جامع البيان” (18/440) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) يقول: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة، وقوله (وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) يقول: وإلينا يردّون فيجازون بأعمالهم، حسنها وسيئها.
فإذا كانت الدنيا خلقت لأجل (الابتلاء والامتحان)، فإن تمام هذا الابتلاء : إنما يكون بأن توجد هذه المعاصي في دار الدنيا ، وأن يوجد في هذ الدار : العتاة ، والعصاة ، والدعاة على أبواب جهنم ، الذين يزينون للناس فسقهم وفجورهم.
أليس هؤلاء هم الفتنة نفسها التي يواجهها المؤمنون الصالحون المصلحون ؟!
ومن هنا : يكون التدافع في الأرض، وينشأ من تفاصيل تلك المدافعة جميع الملاحم ، والحوادث الأرضية العظيمة!!
إذن فلا بد أن تقع الشرور الكبار، ويحصل الخير العميم أيضا، كي تستمر حكمة “الابتلاء”، على طريقة “التدافع”، وكي تبقى للدنيا ماهيتها التي وجدت لأجلها أصلا، كما قال سبحانه: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) سبأ/21
كل هذه الآيات تدل على أن ” الاختبار ” هو السر في خلق الإنسان، وهذا الاختبار يشمل تكليف العبادة أيضا، فمن أدى العبادة – بمفهومها الشامل لكل خير – فقد فاز وربح، ومن قصر خسر بقدر تقصيره.
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله:
“أخبر سبحانه عن خلق العالم، والموت، والحياة، وتزيين الأرض بما عليها، أنه للابتلاء والامتحان، ليختبر خلقه أيهم أحسن عملا، فيكون عمله موافقا لمحاب الرب تعالى، فيوافق الغاية التي خلق هو لها، وخلق لأجلها العالم، وهي عبوديته المتضمنة لمحبته وطاعته، وهي العمل الأحسن، وهو مواقع محبته ورضاه ” انتهى من ” روضة المحبين ” (61)
ويقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله – في تفسير قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات/56 – :
“التحقيق – إن شاء الله – في معنى هذه الآية الكريمة (إلا ليعبدون) أي: إلا لآمرهم بعبادتي وأبتليهم، أي أختبرهم بالتكاليف، ثم أجازيهم على أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر .
وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في معنى الآية، لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملا، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم. قال تعالى في أول سورة الكهف: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا)، فتصريحه – جل وعلا – في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملا، يفسر قوله: (ليعبدون). وخير ما يفسر به القرآن – القرآن.
ومعلوم أن نتيجة العمل المقصود منه لا تتم إلا بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولذا صرح تعالى بأن حكمة خلقهم أولا ، وبعثهم ثانيا : هو جزاء المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وذلك في قوله تعالى في أول يونس: (إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون)، وقوله في النجم: (ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى).
وقد أنكر تعالى على الإنسان حسبانه وظنه أنه يُترك سدى، أي مهملا، لم يُؤمر ولم يُنهَ، وبين أنه ما نقله من طور إلى طور حتى أوجده إلا ليبعثه بعد الموت، أي ويجازيه على عمله، قال تعالى: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى. ألم يك نطفة من مني يمنى) إلى قوله: (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى)” انتهى من “أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن” (7/ 445)

وأما إظهار ضعف الإنسان ، بخلق أسباب المعصية والانحراف في قلبه ؛ فالمقصود به أن يدرك العبد حقيقة نفسه بين يدي خالقه ومولاه، وفاقته إليه، وتقصيره في جنبه، فيتخلص من عُجْبِه وخيلائه ، ويرجع إلى رشده ، بسبب ما يستشعره من تلك المعاني، فتكتمل حكمة الابتلاء.

ونحن هنا نستسمح السائل الكريم أن ننقل له كلاما مطولا بعض الشيء، من كلام الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله، يشرح فيه ما ينبغي أن يقوم في قلب المؤمن وعقله ، لفهم ما يجري في الدنيا من سُعار الشبهات ، والشهوات، الأمر الذي يوقع الكثيرين في الزلل والمعصية، ولكنْ وراء ذلك حكم جليلة وعظيمة.
يقول رحمه الله ، في سياق حديثه عن الحكم في وقوع المعاصي ، ونظر المؤمن لتقديرها :
” السابع : مشهد الحكمة :
وهو أن يشهد حكمة الله في تخليته بينه وبين الذنب، وإقداره عليه، وتهيئته أسبابه له، وأنه لو شاء لعصمه ، وحال بينه وبينه، ولكنه خلى بينه وبينه لحكم عظيمة ، لا يعلم مجموعها إلا الله:
أحدها: أنه يحب التَّوابين ويفرح بتوبتهم، فلمحبته للتوبة وفرحه بها ، قضى على عبده بالذنب، ثم إذا كان ممن سبقت له العناية : قضى له بالتوبة.
الثاني: تعريف العبد عزة الله سبحانه في قضائه ونفوذ مشيئته وجريان حكمه.
الثالث: تعريفه حاجته إلى حفظه وصيانته، وأنه إن لم يحفظه ويصنه فهو هالك ولا بد، والشياطين قد مدت أيديها إليه تمزقه كل ممزق.
الرابع: استجلابه من العبد استعانته به ، واستعاذته به من عدوه ، وشر نفسه ، ودعاءه ، والتضرع إليه ، والابتهال بين يديه.
الخامس: إرادته من عبده تكميل مقام الذل والانكسار، فإنه متى شهد صلاحه واستقامته ، شمخ بأنفه وظن أنه وأنه.. فإذا ابتلاه بالذنب : تصاغرت عنده نفسه ، وذلّ ، وتيقن ، وتمنى أنه وأنه.
السادس: تعريفه بحقيقة نفسه، وأنها الخطاءة الجاهلة، وأن كل ما فيها من علم أو عمل أو خير: فمن الله ، منَّ به عليه ، لا من نفسه.
السابع: تعريفه عبده سعة حلمه ، وكرمه في ستره عليه، فإنه لو شاء لعاجله على الذنب ، ولهتكه بين عباده ، فلم يَصْفُ له معهم عيش.
الثامن: تعريفه أنه لا طريق إلى النجاة إلا بعفوه ، ومغفرته.
التاسع: تعريفه كرمه في قبول توبته ، ومعرفته له ، على ظلمه وإساءَته.
العاشر: إقامة الحجة على عبده، فإن له عليه الحجة البالغة، فإن عذبته فبعدله وببعض حقه عليه بل اليسير منه.
الحادي عشر: أن يعامل عباده في إساءتهم إليه وزلاتهم معه ، بما يحب أن يعامله الله به، فإن الجزاء من جنس العمل، فيعمل في ذنوب الخلق معه ، ما يحب أن يصنعه الله بذنوبه.
الثاني عشر: أن يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم، مع إقامة أمر الله فيهم، فيقيم أمره فيهم رحمة لهم، لا قسوة وفظاظة عليهم.
الثالث عشر: أن يخلع صولة الطاعة والإحسان من قلبه، فتتبدل برقة ورأفة ورحمة.
الرابع عشر: أن يعريه من رداءِ العجب بعمله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لَوْ لَمْ تُذّنِبُوا ، لَخِفْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَشدُّ مِنْهُ ؛ العُجْبَ”، أو كما قال.
الخامس عشر: أن يعريه من لباس الإدلال الذي يصلح للملوك ، ويلبسه لباس الذل الذي لا يليق بالعبد سواه.
السادس عشر: أن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية ، وتوابعهما من البكاء والإشفاق والندم.
السابع عشر: أن يعرف مقداره ، مع معافاته وفضله في توفيقه وعصمته، فإن من تربى في العافية، لا يعرف ما يقاسيه المبتلى ولا يعرف مقدار العافية.
الثامن عشر: أن يستخرج منه محبته وشكره لربه إذا تاب إليه ورجع إليه، فإن الله يحبه ويوجب له بهذه التوبة مزيد محبة وشكر ورضا ، لا يحصل بدون التوبة ، وإن كان يحصل بغيرها من الطاعات أثر آخر، لكن هذا الأثر الخاص لا يحصل إلا بالتوبة.
التاسع عشر: أنه إذا شهد إساءته وظلمه، واستكثر القليل من نعمة الله ، لعلمه بأن الواصل إليه منها كثير ، على مسيء مثله، فاستقل الكثير من عمله ، لعلمه بأن الذي يصلح له أن يغسل به نجاسته وذنوبه : أضعاف ، أضعاف ما يفعله ؛ فهو دائماً مستقل لعمله كائناً ما كان، ولو لم يكن في فوائد الذنب وحكمه إلا هذا وحده لكان كافياً.
العشرون: أنه يوجب له التيقظ والحذر من مصايد العدو ومكايده، ويعرفه من أين يدخل عليه، وبماذا يحذر منه، كالطبيب الذي ذاق المرض والدواء.
الثاني والعشرون: أنه يرفع عنه حجاب الدعوى، ويفتح له طريق الفاقة، فإنه لا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق أقرب من العبودية، فإن دوام الفقر إلى الله مع التخليط خير من الصفاءِ مع العجب.
الثالث والعشرون: أن تكون في القلب أَمراض مزمنة لا يشعر بها، فيطلب دواءَها، فيَمُن عليه اللطيف الخبير، ويقضي عليه بذنب ظاهر، فيجد أَلم مرضه ، فيحتمى ، ويشرب الدواءَ النافع ، فتزول تلك الأمراض التي لم يكن يشعر بها، ومن لم يشعر بهذه اللطيفة ، فغلظ حجابه كما قيل:
لعل عتبك محمود عواقبه *** وربما صحت الأجسام بالعلل
الرابع والعشرون: أن يذيقه ألم الحجاب والبعد بارتكاب الذنب، ليكمل له نعمته وفرحه وسروره إذا أقبل بقلبه إليه، وجمعه عليه، وأقامه في طاعته، فيكون التذاذه في ذلك- بعد أن صدر منه ما صدر- بمنزلة التذاذ الظمآن بالماء العذب الزلال، والشديد الخوف بالأمن، والمحب الطويل الهجر بوصل محبوبه. وإن لطف الرب وبره وإحسانه ، ليبلغ بعبده أكثر من هذا، فيا بؤس من أعرض عن معرفة ربه ومحبته.
الخامس والعشرون: امتحان العبد ، واختباره هل يصلح لعبوديته وولايته أم لا، فإنه إذا وقع الذنب، سُلِب حلاوةَ الطاعة والقرب، ووقع في الوحشة. فإن كان ممن يصلح ، اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة ، فحنَّت ، وأنَّت ، وتضرعت ، واستغاثت بربها ، ليردَّها إلى ما عوَّدها ، من بره ولطفه، وإن ركبت غيها ، واستمر إعراضها ، ولم تَحِنَّ إلى معهدها الأول ، ومأْلفها، ولم تحس بضرورتها ، وفاقتها الشديدة إلى مراجعة قربها من ربها ؛ علم أنها لا تصلح لله، وقد جاء هذا بعينه في أثر إلهي لا أحفظه.
السادس والعشرون: أن الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الإنسان أو بعضها، ولو لم يخلق فيه هذه الدواعي لم يكن إِنساناً بل ملكاً، فالذنب من موجبات البَشرية، كما أن النسيان من موجباتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخطَّائِينَ التَّوَّابُونَ)، ولا يتم الابتلاءُ والاختبار إلا بذلك.
السابع والعشرون: أن ينسيه رؤية طاعته ويشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نصب عينيه، فإن الله إذا أراد بعبد خيراً ، سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه ، والإخبار بها من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نصب عينيه ، حتى يدخل الجنة، فإن ما تقبل من الأعمال رفع من القلب رؤيته ومن اللسان ذكره.
وقال بعض السلف: إن العبد ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار، قالوا: كيف؟ قال: يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينيه، إذا ذكرها ندم واستقال ، وتضرع إلى الله، وبادر إلى محوها ، وانكسر ، وذل لربه ، وزال عنه عُجْبُه ، وكبره .
ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه ، يراها ، ويمن بها ، ويعتد بها ، ويتكبر بها ؛ حتى يدخل النار.
الثامن والعشرون: أن شهود ذنبه وخطيئته : يوجب له أن لا يرى له على أحد فضلاً، ولا له على أحد حقاً. فإنه إذا شهد عيب نفسه بفاحشة ، وخطأها وذنوبها ، لا يظن أنه خير من مسلم ، يؤمن بالله واليوم الآخر، وإذا شهد ذلك من نفسه لم ير لها على الناس حقوقاً من الإِكرام ، يتقاضاهم إياها ، ويذمهم على ترك القيام بها، فإنها عنده أخس قدراً ، وأقل قيمة ، من أن يكون لها على عباد الله حقوق يجب مراعاتها، أو لها عليهم فضل يستحق أن يكرموه لأجله، فيرى أن من سلم عليه ، أو لقيه بوجه منبسط : قد أحسن إليه، وبذل له ما لا يستحقه، فاستراح في نفسه، واستراح الناس من عتبه ، وشكايته. فما أطيب عيشه وما أنعم باله، وما أقر عينه، وأين هذا ممن لا يزال عاتباً على الخلق ، شاكياً ترك قيامهم بحقه ، ساخطاً عليهم ، وهم عليه أسخط؟ فسبحان ذي الحكمة الباهرة التي بهرت عقول العالمين.
التاسع والعشرون: أنه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكرِ فيها، فإنه في شغل بعيبه ونفسه، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس، فالأَول علامة السعادة، والثاني علامة الشقاوة.
الثلاثون: أنه يوجب له الإِحسان إلى الناس ، والاستغفار لإخوانه الخاطئين من المؤمنين، فيصير هجِّيراه: ربِّ اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، فإنه يشهد أن إخوانه الخاطئين يصابون بمثل ما أُصيب به، ويحتاجون إِلى مثل ما هو محتاج إليه، فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم ، يحب أن يستغفر هو لأخيه المسلم …
الحادي والثلاثون: أنه يوجب له سعة بِطانه ، وحلمه ، ومغفرته لمن أساء إليه، فإنه إذا شهد نفسه مع ربه ، مسيئاً خاطئاً مذنباً – مع فرط إحسانه إليه ، وبره ، وشدة حاجته إلى ربه ، وعدم استغنائه عنه طرفة عين ، وهذا حاله مع ربه – فكيف يطمع أَن يستقيم له الخلق ، ويعاملوه بمحض الإحسان ، وهو لم يعامل ربه بتلك المعاملة؟ وكيف يطمع أن يطيعه مملوكه وولده وزوجته في كل ما يريد ، وهو مع ربه ليس كذلك، وهذا يوجب أن يغفر لهم ويسامحهم ، ويعفو عنهم ، ويغضي عن الاستقصاءِ في طلب حقه قِبَلَهم” انتهى باختصار من “طريق الهجرتين” (ص166-173)
والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الاسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android