0 / 0

يسأل عن تحقيقه العدل في كل شيء

السؤال: 210363


نطقت الشهادتين منذ عام ونصف ، وعندي بعض الأسئلة :
هل يمكن للمرء أن يلتزم العدل مع جميع البشرية ، فأبو هريرة رضي الله عنه يروي أن أعرابيا ًجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أريد أن أكون أعدل الناس . فقال صلى الله عليه وسلم : أحب للناس ما تحب لنفسك تكن أعدل الناس .
وإذا كان القرآن يشير إلى أن المرء لا يستطيع العدل مع شخص واحد وهي زوجته ، فكيف له أن يعدل مع البشرية كلها . ولا أدري إن كان ما أفعله أنا من قبيل العدل ! فقد أجد على سبيل المثال كلباً مريضاً فأربّت عليه علّه يشعر بشيء من الراحة . ثم أذهب وأقول في نفسي : كيف تنشد العدل مع المخلوقات وأنت لم تعدل مع نفسك أولاً ، فعبادتك يعتريها النقص والتقصير .
فما نصيحتكم في هذا السياق ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
جميل أن ترى في الناس من يحب العدل ويحرص عليه ، ويسأل عن تفاصيله وطريقة تحقيقه ، فالعدل به قامت السماوات والأرض ، وعليه تقوم مصالح العباد والبلاد ، وهو من أعظم ما أمر الله به في كتابه الكريم ، فقال سبحانه وتعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) النحل/90 ، وقال عز وجل : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) النساء/58 .

والقاعدة الشرعية المبنية على رحمة الله تعالى وإرادته التيسير على الناس ، تقتضي أن يمتثل المسلم ما يستطيع من هذه الأوامر ، فيحقق العدل في حياته ، ويحكم به فيمن حوله ، ويتعامل به مع الخلق ، كل ذلك بحسب قدرته وطاقته ، وإلا فالعدل المطلق لا يتصف به إلا الله سبحانه وتعالى .
لذلك لما أمر الله تعالى بالقسط في المكيال والميزان – وهو صورة من صور العدل – أتبعها برفع الحرج عما خرج عن الوسع والطاقة ، فقال سبحانه وتعالى : ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) الأنعام/152 .

جاء في ” مفاتيح الغيب ” (13/180) للرازي قوله :
” اعلم أنه لما كان يجوز أن يتوهم الإنسان أنه يجب على التحقيق – وذلك صعب شديد في العدل – أتبعه الله تعالى بما يزيل هذا التشديد ، فقال : ( لا نكلف نفسا إلا وسعها ) ” انتهى .

ويقول العلامة السعدي رحمه الله :
” ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ) أي : بالعدل والوفاء التام . فإذا اجتهدتم في ذلك فـ ( لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) أي : بقدر ما تسعه ، ولا تضيق عنه . فمَن حرَص على الإيفاء في الكيل والوزن ، ثم حصل منه تقصير لم يفرط فيه ، ولم يعلمه ، فإن الله عفو غفور . وبهذه الآية ونحوها استدل الأصوليون بأن الله لا يكلف أحدا ما لا يطيق ، وعلى أن من اتقى الله فيما أمر ، وفعل ما يمكنه من ذلك ، فلا حرج عليه فيما سوى ذلك ” انتهى من ” تيسير الكريم الرحمن ” (ص/280) .

ويقول العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله :
” ( لا نكلف نفسا إلا وسعها ) هذه جملة مستأنفة لبيان حكم ما يعرض لأهل الدين والورع من الأمر بالقسط في الإيفاء ; فإنَّ إقامة القسط أمر دقيق جدا ، لا يتحقق في كل مكيل وموزون إلا إذا كان بموازين كميزان الذهب الذي يضبط الوزن بالحبة وما دونها ، وفي التزام ذلك في بيع الحبوب والخضر والفاكهة حرج عظيم يخطر في بال الورع السؤال عن حكمه ، فكان جوابه أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا ما يسعها فعله ، بأن تأتيه بغير عسر ولا حرج ، فهو لا يكلف من يشتري أو يبيع ما ذكر من الأقوات ونحوها أن يزنه ويكيله بحيث لا يزيد حبة ولا مثقالا ، بل يكلفه أن يضبط الوزن والكيل له أو عليه على حد سواء بحسب العرف ، بحيث يكون معتقدا أنه لم يظلم بزيادة ولا نقص يعتد به عرفا .

وقاعدة اليسر وحصر التكليف بما في وسع المكلف وما يقابله من رفع الحرج ونفي العسر من أعظم قواعد هذا الشرع المبني على أقوى أساس من الحق والعدل ، فلا يساويه فيه قانون من قوانين الخلق ، ولو عمل المسلمون بهذه الوصية لاستقامت أمور معاملتهم وعظمت الثقة والأمانة بينهم ، وكانوا حجة على غيرهم من المطففين والمفسدين . وما فسدت أمورهم وقلت ثقتهم بأنفسهم وحل محلها ثقتهم بالأجانب الطامعين فيهم إلا بترك هذه الوصية وأمثالها ، ثم تجد بعض المارقين الجاهلين منهم يهذون ويقولون : إن ديننا هو الذي أخرنا وقدم غيرنا ! ! ” انتهى من ” تفسير المنار ” (8/168) .

فنصيحتنا لك أن تبذل جهدك في تحقيق العدل في حياتك كلها ، فتعدل مع نفسك بأن توردها موارد النجاة والفوز في الآخرة ، وتجتنب مواقع الزلل والتقصير ، كي لا تعرضها للعذاب والعقاب ، وتعدل مع الناس بصلة الأرحام والإحسان إلى الخلق والعفو عن المسيء ، وأن تحب لهم ما تحب لنفسك من الخير ، وتعدل مع النبات والحيوان والأرض بالرحمة والشفقة واجتناب الأذى والضرر ، وهكذا إذا رأى الله منك ذلك كافأك بإذنه سبحانه على الإحسان إحسانا ، كما قال عز وجل : ( هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) الرحمن/60-61 .

ثانيا :
أما الحديث الوارد في السؤال : فليس له إسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يروه أصحاب الكتب المسندة المشهورة ، وإنما ذكره المتقي الهندي في كتابه ” كنز العمال ” (16/127) قال :
” قال الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى : وجدت بخط الشيخ شمس الدين بن القماح في مجموع له عن أبي العباس المستغفري قال : قصدت مصر أريد طلب العلم من الإمام أبي حامد المصري ، والتمست منه حديث خالد بن الوليد ، فأمرني بصوم سنة ، ثم عاودته في ذلك ، فأخبرني بإسناده عن مشايخه إلى خالد بن الوليد قال : ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عما في الدنيا والآخرة ، فقال له : سل عما بدا لك – فذكر فيما سأل أنه – قال : أُحِب أن أكون أعدل الناس ؟ قال : أحب للناس ما تحب لنفسك تكن أعدل الناس ) ” انتهى .

وهذا – كما ترى – لا يكفي للحكم بثبوت الحديث ، حيث لم يذكر الإسناد إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه .

وجاء في ” فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الأولى ” (4/454) : ” الحديث غير صحيح لما في سنده من المجاهيل ” انتهى .

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
” الحديث موضوع ، ورواته مجاهيل ، وكأن واضعه جمع متنه من الأحاديث الصحيحة ، ومن بعض كلام أهل العلم ، وبعض ألفاظه منكرة لا توافق الأدلة الشرعية ، ولا ريب أن العمدة فيما ذكره في هذا الحديث هو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ، أما هذا المتن فلا يعتمد عليه ولا يحتج به ؛ لأنه ليس له إسناد صحيح ” انتهى من ” مجموع فتاوى ابن باز ” (26/326) .

ويغني عن هذه الجملة في الحديث الموضوع : ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أَحِبَّ للناس ما تُحبُّ لنفسك تكن مسلما ) رواه أحمد في ” المسند ” (13/459) وصححه الألباني في ” السلسلة الصحيحة ” (رقم/930) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ) رواه البخاري (13) ، ومسلم (45) .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android